لطالما شكّل الأدب أحد أكثر المعتركات تجسيداً لصوت المرأة وطبعاً لبصمتها. وقد تمكّن الأدب النسوي, تحديداً, من التعبير عن قضاياها وتجاربها ملقياً الضوء على الظلم الاجتماعي والتمييز الجنسي الذي طالها في مجتمعات وسياقات شتّى. وهو ما ساهم في مناهضة الصورة النمطية, وإن بتفاوت وفي الشقّ الرائد لا المبتذَل منه, وعمل على إبراز شخصيّتها واستقلاليتها.

ظهر الأدب النسوي كجزء من الحركات النسوية الكبرى في القرن التاسع عشر التي ركّزت على حق المرأة في التصويت والمساواة القانونية. ففي كتابها "دفاع عن حقوق المرأة" (1792), طالبت الكاتبة الإنكليزية, ماري وولستونكرافت, بحقوق متساوية للمرأة في التعليم والمجتمع. واستمرّ الأدب النسوي بالتطوّر خلال القرن العشرين مع التركيز على قضايا جديدة شملت حقوق التصويت والمساواة في العمل وحرية التعبير, حيث عبّرت إنكليزية أخرى, فرجينا وولف, في كتابها "غرفة تخص المرء وحده" (1929), عن أهمية الاستقلال الفكري والاقتصادي للمرأة.
ومع الموجة النسوية الثانية, في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي, انتقلت قضايا النساء إلى مرحلة تناولت الحقوق الإنجابية, والتحرّر الجنسي, والمساواة في مكان العمل. وقد ركّزت الكاتبة الأميركية, بيتي فريدان, في كتابها "الغموض الأنثوي" (1963), على الشعور بالفراغ الذي تعيشه النساء نتيجة لعدم تحقيق الذات في المقام الأوّل.
واستحال الأدب النسوي المعاصر, مع الوقت, أكثر تنوّعاً, مسلّطاً الضوء على قضايا الهوية والتعدّدية العرقية والجنسية. فكانت المؤلّفة الكندية, مارجريت أتوود, إحدى أبرز من طرح رؤى مستقبلية بائسة حول الهيمنة الذكورية وأثرها على النساء في روايتها "حكاية الجارية" (1985).
عربياً, أطلّ الأدب النسوي منذ بدايات القرن العشرين, مع كتابات هدى شعراوي ونازك الملائكة, إذ تناول هو الآخر قضايا حقوق المرأة والمساواة. وفي العقود الأخيرة, امتدّت رقعة انتشار هذا النوع الأدبي في عالمنا العربي, مع تزايُد الوعي النسوي وبروز كاتبات قدّمن رؤى نسوية حول قضايا متعدّدة, مثل أحلام مستغانمي ونوال السعداوي.
ومع انبلاج فجر الإنترنت وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي, ها هي النسوية الرقمية المعاصرة تطوّر الأدب النسوي ليشمل المدوّنات والمقالات الإلكترونية, ما أتاح للكاتبات المعاصرات مناقشة قضايا العنف ضد المرأة والتحرّش والتمثيل الإعلامي من بين مواضيع أخرى.
هو إذاً نضال عبر العصور عكس تحديات الهوية لكسر صورة المرأة النمطية السائدة وتعزيز الوعي المجتمي كما إعطاء صوت للنساء المهمّشات. لكن رغم Top of Formذلك, لا زال الأدب النسوي يواجه تحديات متعدّدة, منها المقاربة التقليدية التي تنظر إلى الأفكار النسوية بعين الريبة وتعتبرها تهديداً للقيم الاجتماعية السائدة. ناهيك بالتحديات المتعلّقة بحريّة التعبير في بعض المجتمعات التي لا تزال تضع قيوداً على نشر الأفكار النسوية.
وهنا نتكلم عن صراع المرأة مع التوقعات الاجتماعية وأبرزها الزواج والأمومة, حيث سعت بطلة رواية "الصحوة", الكاتبة الأميركية كيت شوبان, لاكتشاف هويتها الحقيقية بعيداً عن الأدوار المؤطّرة التي يفرضها عليها المجتمع كزوجة وأم. ثم هناك تعقيدات الهوية الجندرية وتأثيرها على تشكيل هوية النساء, الأمر الذي عبّر عنه المؤلّف الأميركي من أصل أفغاني, جون شتايبنك, في روايته "العداء والطائرة الورقية". ففيها تحدّث عن تعقيدات الهوية الجندرية والتحديات الاجتماعية التي تبقى للمرأة بالمرصاد. وينبغي في هذا الإطار ذكْر مواجهة التنوّع العرقي والثقافي والديني والاجتماعي وما تواجهه النساء من تهميش اجتماعي تُشتمّ منه أشكال من العنصرية والعبودية.
الأدب النسوي لم ينشأ من العدم. فهو إبداع خرج من رحم مطالب ملحّة لحسم تناقضات مزمنة. وفي المسيرة النضالية الطويلة للمرأة العربية نحو التحرّر, لم تجد الأخيرة لنفسها, في أحيان كثيرة, موضع قدم إلا بالكتابة التي تتخطى عبرها مزيجاً من ألم وكآبة. كيف لا وبعض هذا العالم يغلب عليه الحجر الأبوي ولا يرى فيها سوى الزوجة والأم والأخت دون – أو قبل – أي شيء آخر.
في الحقيقة, تحتاج الكتابة النسوية إلى شروط. ومن بينها, كما يعتقد نقّاد كثر, ضرورة صدورها عن وعي مكتمل بالوضعية المأساوية التي ما زالت تعيشها أعداد كبيرة من النساء على مستوى العالم. فهي ترسم تحرّر المرأة وتقدُّم المجتمع كأفق للفنّ الإبداعي الأدبي النسوي سواء أكان سردياً أو شعرياً. ومهما يكن من أمر, فالأكيد أن الأدب النسوي شكّل إضافة نوعية مهمة للإنسانية جمعاء, إذ أضفى نوعاً من التوازن في رؤيتنا لهذا العالم المنكوب بغير نكبة.
نجحت النساء في خطّ مسارات جديدة أحياناً وفشلت أحياناً أخرى. لكن هذا دأب المسارات المحشوّة بالمطبّات. فبصمتها في كتابة التاريخ, أدبياً على أقلّ تقدير, تثبت أن التمييز الجندري ليس سوى حاجز من شأن عزيمتها وفكرها – وقلمها – كسْره.
الحرة بيروت ـ بقلم كارين عبد النور
