في عصرٍ لم تعد فيه القوة تُقاس فقط بالحدود السياسية أو الاقتصاد التقليدي, بات الفضاء معياراً جديداً لتصنيف الدول وفق تطوّرها التكنولوجي والعلميّ. فالصناعات الفضائية لم تعد ترفاً علمياً أو مجالاً حكراً على القوى العظمى, بل أصبحت قطاعاً اقتصادياً متنامياً يُقدَّر حجمه عالمياً بأكثر من 400 مليار دولار سنوياً, مع توقّعات بارتفاعه بشكل مستمرّ. لكن في ظلّ الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعيشها لبنان, هل يمكن له أن يدخل هذا المضمار؟ وهل يمتلك المقوّمات اللازمة ليكون لاعباً في صناعة المستقبل؟

الفضاء: أكثر من مجرّد استكشاف
لطالما ارتبط مفهوم الفضاء بالاكتشافات العلمية والاستكشافات الكونية, لكنه اليوم يُمثل صناعة استراتيجية ذات أبعاد اقتصادية وتجارية. فإلى جانب إطلاق المركبات الفضائية واستكشاف المجرّات, باتت تطبيقات الفضاء تشمل مجالات واسعة, مثل الاتصالات, والملاحة, والاستشعار عن بعد, والأقمار الصناعية المخصّصة لمراقبة التغيّرات المناخية وإدارة الموارد.
ومع دخول دول نامية ودول عربية, مثل الإمارات والسعودية, هذا المجال بخطوات جادة ومشاريع ضخمة, يتساءل البعض: أين لبنان من كل ذلك؟
مقوّمات لبنان الفضائية
رغم الأزمة الاقتصادية الحادّة, لا يزال لبنان يمتلك بعض المقوّمات التي قد تؤهّله لدخول قطاع الفضاء, في حال توافر الإرادة السياسية والاستثمار السليم:
كوادر علمية وكفاءات متميّزة: الجامعات اللبنانية, مثل الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) وجامعة القديس يوسف (USJ), خرّجت علماء ومهندسين بارزين في مجالات التكنولوجيا والاتصالات, وبعضهم يعمل حالياً في وكالات فضائية وشركات عالمية متخصّصة في علوم الفضاء.
إرث تقني وابتكاري: على الرغم من غياب صناعة فضائية متكاملة, فإن لبنان يمتلك قطاعاً قوياً في البرمجيات والتكنولوجيا, ما قد يسمح له بالمساهمة في تطوير تقنيات مرتبطة بعلوم الفضاء, مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الفضائية.
التعاون الإقليمي والدولي: لا يزال لبنان قادراً على الانخراط في مشاريع فضائية عبر شراكات مع دول رائدة, كما يمكنه الاستفادة من خبرات دول عربية قطعت أشواطاً في هذا المجال, مثل الإمارات, التي أطلقت "مسبار الأمل" إلى المريخ.
الفضاء كفرصة استراتيجية للبنان
إذا تمكّن لبنان من توجيه استثماراته بالشكل الصحيح, فإن قطاع الفضاء قد يكون رافعة اقتصادية واستراتيجية من عدة نواحٍ:
إنتاج الأقمار الصناعية الصغيرة (Nano-Satellites): هذه التكنولوجيا أصبحت مطلباً عالمياً, حيث تُستخدم في الاتصالات, والرصد البيئي, وإدارة الموارد الطبيعية, ويمكن للبنان أن يكون جزءاً من هذه السوق المتنامية.
تعزيز الاتصالات الفضائية: نظراً للبنية التحتية الضعيفة في الاتصالات, يمكن للبنان الاستفادة من حلول الفضاء لتعزيز خدمات الإنترنت والتواصل في المناطق النائية, ما يدعم الاقتصاد الرقمي.
إعادة بناء الصورة العالمية للبنان: يمكن أن يكون الاستثمار في الفضاء وسيلة لتحسين صورة لبنان عالمياً, عبر مشاريع علمية وتقنية تجذب اهتمام المجتمع الدولي بعيداً من الأزمات السياسية.
الاستفادة من البيانات الفضائية: يمكن استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد في تحسين قطاع الزراعة, وإدارة الأزمات البيئية, وتطوير سياسات أكثر دقة في التخطيط العمراني والبنية التحتية.
عقبات تحتاج إلى حلول
لكن دخول لبنان في هذا المجال ليس بالأمر السهل, إذ يواجه عدة تحدّيات رئيسية:
الأزمة المالية وضعف الاستثمار: يتطلب قطاع الفضاء استثمارات ضخمة, وهو ما يبدو صعباً في ظل الانهيار الاقتصادي الحالي. لذا, لا بدّ من البحث عن شراكات دولية, واستثمارات من القطاع الخاص, وربما دعم من الجاليات اللبنانية الناجحة في الخارج.
غياب الاستراتيجية الوطنية للفضاء: لا توجد رؤية واضحة أو خطة حكومية لتطوير هذا القطاع, وهو ما يستدعي وضع استراتيجية وطنية تبدأ بمشاريع صغيرة مثل الأقمار الصناعية البحثية.
البنية التحتية التكنولوجية المحدودة: يحتاج لبنان إلى تحديث بنيته التحتية في مجالات البحث والتطوير قبل أن يتمكّن من تحقيق تقدم فعلي في الصناعات الفضائية.
ما الخطوة التالية؟
لتحقيق هذا الحلم, يجب على لبنان اتخاذ خطوات عملية, ومنها:
تعزيز التعليم والتدريب في علوم الفضاء: يجب إدراج برامج أكاديمية متخصّصة في هندسة الفضاء, والذكاء الاصطناعي, والاستشعار عن بعد في الجامعات اللبنانية.
خلق بيئة استثمارية جاذبة: من خلال تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات للشركات الناشئة في مجال الفضاء والتكنولوجيا المتقدّمة.
توسيع التعاون الدولي: عبر الانضمام إلى اتفاقيات تعاون مع وكالات فضاء مثل "ناسا" و "وكالة الفضاء الأوروبية", والمشاركة في مشاريع بحثية مشتركة.
إطلاق أول قمر صناعي لبناني: يمكن أن يكون مشروعاً صغيراً بالتعاون مع جهات دولية, ليكون بداية عملية في هذا المجال.
استخدام الفضاء لحل مشكلات محلية: مثل الاستفادة من تقنيات الفضاء في إدارة المياه, ومراقبة التغيرات البيئية, وتطوير قطاع الزراعة.
حلم قابل للتحقيق؟
قد يبدو الاستثمار في قطاع الفضاء للبعض حلماً بعيد المنال, خصوصاً في ظل الأوضاع الصعبة التي يمرّ بها لبنان. ولكن التاريخ أثبت أن الدول التي تواجه تحدّيات كبرى يمكنها, إذا امتلكت الرؤية والإرادة, تحويل هذه التحديات إلى فرص.
الفضاء ليس مجرّد خيال علمي أو رفاهية علمية, بل هو بوابة للمستقبل يمكن أن تفتح للبنان فرصاً اقتصادية وتكنولوجية ضخمة. فهل يجرؤ لبنان على اتخاذ هذه الخطوة, أم سيظل حبيس أزماته؟
المصدر: نداء الوطن
الكاتب: شربل صفير