أيام معدودة تفصلنا عن عيد الحب والقلوب المتيّمة. قلوب يُغبطها العشق يوماً ويكسرها يوماً آخر. لكن إن صحّ النطق شاعرياً بـ"انكسار" القلوب المتيّمة, فالبعد البيولوجي لاعتلال القلوب عامةً و"انكسارها" قاتل حقاً. إذ تشكّل أمراض القلب والأوعية الدموية السبب الرئيس للوفاة على مستوى العالم, بما يفوق 20 مليون مريض سنوياً. ففي المنكسر من القلوب – بيولوجياً, لا شاعرياً – وانكباب الطب المتواصل على ردم الفجوة الهائلة في قدرتنا على إصلاحها, نغوص.
على عكس معظم خلايا جسم الإنسان, لا تمتلك خلايا القلب القدرة على الإصلاح أو التجدّد الذاتي. فليس للقلب خلايا جذعية تقليدية, حيث أن خلاياه المتمايزة لا تنقسم مبدئياً وتتجدد. التناقض ذاك مع معظم عضلات الجسم الأخرى, يفسّر خطورة آثار النوبات القلبية وحالات قصور القلب بالمجمل. فأين الطب من المسألة؟
سنة 2011, حدّد علماء من معهد "ماكس بلانك" لأبحاث القلب والرئة بروتيناً يساهم في استصلاح خلايا القلب بواسطة تحفيز عودة خلايا عضلته إلى حالتها السابقة. فلتجديد عضلة القلب المعتلّة يتعيّن استبدال الخلايا العضلية التالفة بأخرى جديدة. لكن المشكلة, بخلاف الفقاريات البسيطة, مثلاً, هي انعدام آلية إصلاح تُعرف بـ"فقدان التمايز". وهي عملية تنتِج خلايا قوامها سلسلة من علامات الخلايا الجذعية مستعيدة بذلك نشاطها الانقسامي لتتحول بدورها إلى خلايا عضلية قلبية.
اكتشفت المجموعة البحثية الجزيء المسؤول عن التحكم بفقدان التمايز لخلايا عضلة القلب لدى الثدييات. ولاحظ العلماء بدايةً تركيزاً عالياً من بروتين "أونكوستاتين إم" في عيّنات الأنسجة من قلوب مرضى مصابين باحتشاء العضلة. فعملوا على معالجة خلايا عضلة القلب المزوّدة به مختبرياً وتمكنوا بعد ذلك من تتبُّع الخلايا الحية مجهرياً.
باستخدام فئران تجارب, نجح الباحثون في إثبات دور "أونكوستاتين إم" التحفيزي. وجرى مسبقاً تعديل إحدى مجموعتي الاختبار وراثياً للتأكد من انتفاء قدرة البروتين على التأثير في الحيوانات. فجاء الفرق بين المجموعتين مذهلاً. إذ في حين شهدت المجموعة المتأثرة بـ"أونكوستاتين إم" بقاء معظم الحيوانات على قيد الحياة بعد أربعة أسابيع, فإن 40% من الفئران المعدلة وراثياً نفقت نتيجة الاحتشاء.
وسنة 2017, توصّل بحث مشترك لمعهد الجينوم ونظام الصحة الجامعي الوطني في سنغافورة إلى وسيلة محتملة لتحفيز الخلايا القلبية التالفة على الشفاء الذاتي. فلأول مرة, حدد الباحثون حمضاً نووياً طويلاً غير مشفّر (ncRNA) ينظّم الجينات التي تتحكم بقدرة خلايا القلب على الخضوع للإصلاح أو التجدّد. والحمض النووي الريبوزي ذاك أطلق عليه الباحثون اسم "Singheart".
لجأ الفريق, في الدراسة التي نُشرت في مجلة "Nature Communications", إلى تقنية الخلية الواحدة لاستكشاف أنماط التعبير الجيني في القلوب السليمة والمريضة. ووجدوا أن مجموعة فرعية (وفريدة) من خلايا قلوب المرضى إنما تنشّط برامج الجينات المتعلقة بانقسام الخلايا, ما كشف عن أمرين: تبايُن التعبير الجيني لخلايا القلب المريضة؛ ووجود "مكابح" تمنع الأخيرة من الانقسام والشفاء الذاتي مع التقدم في العمر.
بعدها بعام, أعلن علماء في مختبر "Kühn" في معهد طب الأطفال لتجديد القلب والعلاج بجامعة "بيتسبرغ" عن توصلهم إلى تجديد الخلايا العضلية القلبية بدورهم. انصبّ تركيز الفريق لسنوات على بدء تكاثر الخلايا العضلية القلبية لدى البالغين. فحدّدوا عامل نمو داخلي يشجّع, لدى حقنه, خلايا عضلة القلب على الانقسام. واعتماداً على الفئران أيضاً, أظهرت الدراسات أن الآليات الأساسية لتجديد القلب (والتكاثر السريع لخلاياه العضلية) أكثر تواجداً في أنسجة الأطفال منها لدى البالغين.
بواسطة نماذج حيوانية لاحتشاء عضلة القلب, رصد الباحثون إمكانية حث خلايا الأخيرة لدى حديثي الولادة على الانقسام عن طريق تزويدها بأحد مكوّنات المصفوفة خارج الخلية, "ببتيد البيريوستين", وعامل النمو, "النيوريجولين 1". والجدير بالذكر أن الباحثين حددوا المستقبلات والمسارات داخل الخلايا التي ينشط عبرها العاملين المذكورين. فتبيّن, بما يُعدّ أمراً بالغ الأهمية, أن كونهما أكثر حضوراً في الأنسجة الشابة, لم يُترجم غياباً تاماً لهما لدى البالغين.
وللأكسجين حصّته. فقد أيقن العلماء طويلاً أن قلب الإنسان, في مرحلة ما قبل الولادة, يكون بمثابة محرّك للانقسام الخلوي. لكن بمجرد ولادتنا, فإن اندفاع الأكسجين من أنفاس الطفل الأولى يحفز الخلايا العضلية القلبية على النمو بسرعة بدلاً من الانقسام. هكذا, وعلى مدار عقد من الزمن, عكف فريق من الأطباء في جامعة "تكساس ساوث ويسترن" على معرفة توقيت وسبب توقّف القلب عن التجدّد. واكتشفوا سنة 2022 بروتينين اثنين ("Meis1″ و"Hoxb13") يتعاونان للجم الانقسام. فبحذف الأخيرين أو تثبيطهما في بيئة مختبرية, تعود خلايا القلب إلى وظيفة النمو السابقة, حيث تتناقص حجماً وتتضاعف زخماً.
عاد العلماء إلى مرحلة تطوّر عضلة القلب البشرية في الرحم, حيث تقوم الدورة الدموية للأم بتوفير الدم الغني بالأكسجين للجنين. هناك, يكون تشبُّع الأكسجين لدى الجنين بمقدار 50-60% فقط (مقارنة بـ100% بعد الولادة). فإذ يبصر المولود النور, يبدأ القلب بضخ الدم بتشبّع أكسجين أعلى بأضعاف رافعاً منسوب الضغط داخله. ويمسي الأخير العضو الأكثر طلباً للطاقة في الجسم معتمداً على الأكسجين ومولّدات طاقته, أي الميتوكوندريا.
وتعاون الفريق مع المركز الفضاء الألماني في كولونيا لغرض منع أو عكس المسار المذكور. فعرّضوا خلايا عضلة القلب المصابة لتركيز مستوى أكسجين يبلغ 7% – وهي نسبة الأخير فوق قمة إيفرست وتساوي ثلث منسوبه عند مستوى سطح البحر, ما يحيل البقاء على قيد الحياة أمراً عسيراً. فتمثّلت المفاجأة, بالفعل, ببدء الخلايا التالفة والخاضعة للتجرية بالانقسام والتجدّد بعد أسبوعين.
لكن هل يمكن للعلاج بنقص الأكسجين إتلاف الأعضاء الحيوية الأخرى؟ سؤال يضاف إلى مخاطر الآثار الجانبية لمختلف العلاجات الواعدة. لكن ننهي مع دراسة صدرت أواخر العام الماضي لمعهد "كارولينسكا" في السويد, ونُشرت في مجلة "Circulation". حيث دُهش الباحثون بإظهار المرضى المزوّدين بجهاز مساعدة البطين الأيسر (LVAD) تحسناً كبيراً في وظائف القلب. فخلال الدراسة, تمّت مراقبة معدلات الشفاء لدى 52 مريض فشل قلبي, عولج 28 منهم باستخدام الجهاز المشار إليه. ورغم إدراك العلماء أن قلوب بعض المرضى تتحسن مع الوقت لدرجة تتيح إزالة الجهاز, غير أن آليات عملية التعافي المدعومة بالأخير بقيت غامضة.
لتتبّع مسار تجديدها, نظر الفريق في مستويات الكربون المشعّ داخل خلايا القلب. فمستويات العنصر ذاك آخدة بالانخفاض في الغلاف الجوي وبشكل مطّرد منذ حظر التجارب النووية سنة 1963. لذا, من شأن وجوده في الخلايا إعطاء فكرة عن عمر الأخيرة. فظهر, من خلال نماذج رياضية, أن معدل تجديد الخلايا العضلية في القلوب التي تعاني قصوراً, أقل بنحو 18 إلى 50 مرة منه في القلب السليم النموذجي. والأهم, كما لاحظ الباحثون, فتمثّل بتمكين جهاز مساعدة البطين الأيسر لقدرة الخلايا على التجدّد بوتيرة أسرع بست مرات, أقلّه, من القلب السليم.
التجارب تتواصل مع عين على آفاق العلاجات وأخرى على انعكاساتها السلبية المحتملة. وفي الأثناء, يحقّ لأهل العشق الأمل بجبر القلوب "المنكسرة" شاعرياً – وللعلماء (والبشرية جمعاء) بالتغلّب على تلك "المنكسرة" بيولوجياً.
الحرة بيروت ـ بقلم: روني عبد النور