بقلم: كارين عبد النور
في مثل هذا اليوم قبل 32 عاماً اتّشح لبنان بالسواد: مصطفى جحا شهيداً للفكر والكلمة. دماء امتزجت بأخرى سبقت ولحقت كشعلة متّقدة لا تعرف الانكفاء عن مقاومة الظلم والاستبداد. الكاتب والمفكّر اللبناني, الذي حمل قلمه بِيَدٍ, وهَمّ الوطن بأخرى, استشهد في سبيل قناعاته. قصة تُكتب بحروف من حبر ودم.
حين يغدر الموت بضحكة الأبناء
جحا بسطور
وُلد مصطفى جحا عام 1942 في قرية الجبّين في جنوب لبنان, ونشأ في بيئة مشبعة بروح النضال والتصدي للحرمان والفقر, وهي البيئة التي رسمت معالم وعيه منذ نعومة أظافره. التحق بالمدارس المحلية, ثم أكمل دراسته الجامعية ليتبحّر لاحقاً في مجالات الأدب والفلسفة والسياسة, جامعاً بين حبّ المعرفة وولعه بتجديد الفكر الذي اعتبره الأداة الأنجع لتحرير الشعوب.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي, سحقت لبنان حرب أهلية طاحنة لعبت الميليشيات المسلّحة, على مختلف مشاربها, دور "البطولة" فيها. وسط تلك العتمة الفكرية, برز جحا كصوتٍ صادح في آتون الطائفية والمذهبية, داعياً إلى العقلانية والحداثة وحرية العقل وتحرُّر الإنسان.
"إن أسوأ ما يُصيب الإنسان هو أن يسلّم عقله إلى غيره, أن يُغيّب الفكر النقدي ليصبح تابعاً مقلّداً, خائفاً من السؤال." كلمات لجحا تعكس روحه المتمرّدة على الجهل والاستبداد والطائفية. كان, بشهادة من عاصروه, كاتباً شجاعاً, انتقد تعصّب بعض الشيعة الأعمى لإيديولوجيات غير لبنانية وجمود الفكر الديني والسياسي, رغم معرفته أن النهاية الحتمية لانشقاقه عن بيئته هي الاغتيال – إمّا المعنوي أو الجسدي.
"الطائفية لعنة الشعوب, فهي لا تقيم دولاً بل تقيم متاريس من الدم والكراهية. أما العقل فهو الذي يصنع الأوطان." وما أشبه الأمس باليوم. فقد كان جحا مؤمناً بأنّ تحرُّر الأوطان ينطلق من تحرُّر العقول, وبأن الانقسام الطائفي هو المرض الذي ينخر في جسد لبنان, مهدّداً وحدته الوطنية. انتقد بجرأة جميع أشكال الوصاية الداخلية والخارجية على القرار اللبناني, وكان من دعاة إعلاء صوت الوطن فوق كل الإنتماءات الأخرى. فـ"لبنان ليس زواريب طائفية, بل هو وطن للإنسان الحر, حيث ينبغي أن تتقدّم الهوية الوطنية على كل الانتماءات الفرعية."
عُرف جحا بمؤلفاته الجريئة, ونذكر منها: "رسالتي إلى المسيحيين"؛ "الخميني يغتال زرادشت"؛ "محنة العقل في الإسلام"؛ و"لبنان في ظلال البعث". وقد شكّلت كتاباته صرخة ضد التطرف, ودعوة لنبذ العصبيات المذهبية والطائفية. هو الذي وجّه انتقادات قاسية للتدخل الفلسطيني في لبنان, كما لانجرار أبناء الطائفة الشيعية وراء حركة "فتح" أو أي جهة ولاؤها ليس للبنان.
خطف فاغتيال
كتابات جحا قضّت مضاجع القوى المتواجدة في جنوب لبنان في تلك الحقبة من الفلسطينيين وحلفائهم. وتعرّض للخطف عام 1975على يد حركة "فتح" لمدة 20 يوماً, عايش خلالها أشدّ أنواع التعذيب. والتهمة: التعامل مع الأحزاب اللبنانية اليمينية ("الكتائب اللبنانيّة" و"الوطنيين الأحرار").
ومرّت السنوات ليحلّ يوم اغتياله برصاص الغدر في 15 كانون الثاني/يناير 1992 أمام منزله في إحدى ضواحي بيروت. تماماً كما اغتيلت شخصيات فكرية ووطنية أخرى تصدّت للتيارات الظلامية التي لا تقيم وزناً سوى للغة السلاح والاستقواء إسكاتاً لأصحاب الرأي والفكر الحر. فماذا يخبرنا صديق جحا, المحامي والكاتب اللبناني طانيوس رزق, في ذكرى اغتياله الـ32؟
المحامي والكاتب طانيوس رزق
"بدأت معرفتي به على خلفية مقال كتبته في العام 1975 في جريدة "العمل". فأعجب به واتصل بي ودعاني للمشاركة في لقاءات كانت تحصل في منزل الأستاذ جورج كساب في بيروت. أذكر ما قام به في 11 أيلول/سبتمبر 1975 على إثر حادثة دير مار جرجس عشاش في عكار حين تعرّض ثلاثة رهبان مسنّين للذبح. طلب مني مرافقته إلى منطقة الكسليك للقاء الأباتي شربل القسيس, الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية آنذاك. فاستهلّ مصطفى اللقاء مخاطباً الأباتي: "الرهبان ذُبحوا على يد مسلمين, أودّ أن أقدّم أولادي ليُذبحوا بالمقابل". فما كان من القسيس إلّا أن أجابه بأن الكنيسة قدّمت قوافل من الشهداء وهي ترفض مواجهة القتل بالقتل".
بعد تذكيرنا بأكثر مقالات جحا شهرة وهي "كتاب مفتوح للإمام موسى الصدر" – وقد نشره في أحد أيام آب/أغسطس 1975 بعد انفجار ضخم هزّ مدينة بعلبك حين كان شباب منتمون لحركة "أمل" يتدرّبون على السلاح ما أودى بحياة العشرات منهم – ينتقل رزق إلى يوم الاغتيال الأليم ويروي بغصّة: "كان يعلم ويشعر بأن هناك من يتحّين الفرصة لتصفيته, وقد أخبرني بذلك مراراً. في صباح 15 كانون الثاني/يناير 1992, وبعد أن قام بإيصال أحد أبنائه إلى كلية الشرق الأوسط في منطقة السبتية, وُجد راقداً داخل سيارته جسداً بلا روح".
وينهي رزق حديثه عن جحا مستذكراً الورود البيضاء. "كان متحمّساً دوماً للكتابة ووفياً لأصدقائه. كلّما أهدى أحدنا واحداً من كتبه, أرفق الهدية بباقة ورد بيضاء".
وراثة القضية
مصطفى الإبن
مصطفى الإبن
من لبنان إلى السويد. فقد تواصلت جريدة "الحرة" مع مصطفى جحا الإبن, نجل مصطفى والدكتورة إيمان بقاعي, المتخصّصة في الأدب العربي. "هذا اليوم, رغم الألم الذي يحمله, هو مناسبة للتذكير بالذين عبّروا عن آرائهم بحريّة فكانت حياتهم هي الثمن. وكي لا يُغتالوا مرّتين علينا أن نتذكرهم دوماً. والدي لم يمت. صحيح أنني أفتقد حضوره الجسدي لكنه حاضر في كل ما أقوم وأفكر به. حتى أن دراسة الماجستير التي أنهيتها قبل فترة في السويد كانت مهداة لروحه".
ماذا يذكر الإبن عن الأب؟ "كنت في الثامنة حين قتله هؤلاء المجرمون. لكنّي أتذكر جيداً كم كان حنوناً وحريصاً على اللعب معنا رغم ظروفه القاسية. فهو عاش فترة طويلة من التهديد وكان يعرف أنه قد يتعرّض للقتل بأي لحظة. ويخبرني من عرفوه أنه كان يعمل على تحرير موقوفين على الحواجز خلال الحرب دون معرفة مسبقة بينه وبينهم. هذا هو مصطفى جحا الذي أفتخر به والداً وإنساناً ومفكّراً دفع حياته ثمناً لحرية فكره".
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن المحكمة الشرعية الجعفرية أصدرت بحقّ جحا فتوى تكفير بتاريخ 12 نيسان/أبريل 1983, ما يُعدّ حكم إعدام بحدّ ذاته. بيد أن مصطفى الإبن يستعيد روح والده المرحة ومحبّته للآخرين رغم إعدامه المعنوي طويلاً. "هناك مشهد لا يفارقني وقد ورثته عنه. في أي زيارة كان يقوم بها, كان يحمل الكتاب بِيَدٍ وباقة زنبق أبيض بالأخرى".
بسبب الوالد, أيقن مصطفى أن كل خطوة نجاح يحقّقها في الخارج يجب أن ترتبط بوطنه لبنان. "يهمّني رفْع إسم وطني في الخارج. أستفيد من مركزي في إدارة التعليم في السويد ومن كوني عضواً في المجلس الوطني المركزي لمديري التعليم السويديين هنا لأفتخر بانتمائي اللبناني ولأعكس صورة لبنان الجمال والرقي والفكر والحضارة, وليس لبنان الميليشيات والتطرف والانتماءات الخارجية والقتل والإرهاب والحروب. إنه استكمال لمسيرة والدي الذي عشق لبنان حدّ العبادة".
عدالة غائبة… وبصمات
نعود مع مصطفى الإبن إلى تفاصيل يوم الاغتيال المشؤوم. "كنت في مدرسة سانت ريتا في الضبية. يومها نادتني الراهبة المسؤولة مع شقيقتَيّ إلى مكتبها فحضنتنا وأخبرتنا أن والدنا أصبح في السماء طالبة منا ألّا نحزن. بعدها, وصل أحد الجيران وأقلّنا إلى المنزل. أذكر تشابُك الأصوات وحالة الحزن والغضب التي كانت تسود المكان. ولا تغيب عنّي حالة والدتي. فهي امرأة قُتل زوجها بطريقة بشعة ووجدت نفسها فجأة وحيدة مع ثلاثة أولاد, في مجتمع تتحكم به جهات على عداء شديد مع العائلة. حتى أنني أذكر كيف طُلب منا لفترة طويلة عدم ذكْر كوننا أولاد مصطفى جحا".
مصطفى جحا مع مؤسس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميّل والرئيس الراحل كميل شمعون
بعد الاغتيال, تواصل تعرُّض العائلة لمضايقات جمّة, ما اضطر مصطفى الإبن للانتقال إلى السويد, لا سيّما بعد أن جرى التعرض له مباشرة على أوتوستراد الدامور. واستُكمل مسلسل الملاحقات الصيف الماضي حين قرّر الإبن, بعد انقطاع لمدّة 11 عاماً, زيارة لبنان للاطمئنان على والدته وشقيقتيه, ليتفاجأ بتوقيفه لدى وصوله إلى مطار بيروت بتهمة التواصل مع صحافية لبنانية – إسرائيلية. "إنه ملف سياسي بامتياز أدّى إلى سجني 71 يوماً في نظارة المحكمة العسكرية. لم أصدّق كيف انتقلت فجأة ودون سبب من عيش حياة كريمة لأجد نفسي مرمياً في زنزانة مخيفة, مقرفة, ووسخة".
في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2023, أصدرت المحكمة العسكرية حكماً قضى بكفّ كافة التعقبات ضدّ مصطفى الإبن لعدم وجود جرم في الأساس. "كل ما حصل وقد يحصل لن يخيفني. لا يجب أن نفقد الأمل. فكل يوم هو اليوم المناسب للوقوف في وجه القوى التي دمّرتنا. في فترة معيّنة, أعدت طباعة عدد من كتب والدي, ما لم يلقَ استحساناً من بعض الأطراف في لبنان. لكنّي مؤمن بشكل مطلق بضرورة احترام حرية الرأي والتعبير بغضّ النظر عن الاختلاف. وهو ما كان يؤمن به والدي أيضاً. كما أفكّر اليوم في إعادة طباعة كتاب "لبنان في ظلال البعث" والذي وثّق والدي من خلاله إيديولوجيا حزب البعث, بجناحه السوري, في الحروب التدميرية على لبنان وشعبه, بجوانبها العسكرية والفكرية والثقافية. وهو ما بات واضحاً في سوريا بعد سقوط النظام هناك, كما في لبنان حيث تُشارك الذيول الإيرانية في الخراب والإجرام وتدمير الفرد والمجتمع".
لا دليل قضائياً حتى الساعة يتعلق باغتيال جحا. لكن, أليس المنفذ جهة مجهولة – معلومة هي نفسها التي غدرت برئيس تحرير جريدة "النداء", سهيل طويلة, والمفكّر حسين مروة, والأستاذ الدكتور حسن حمدان المعروف بإسم مهدي عامل, والكاتب والناشط لقمان سليم ولائحة طويلة من أصحاب الفكر المتحرّر, كما يعتقد كُثر؟ "حاولت بشتى الوسائل نبش الملفات القضائية المتعلقة باغتيال والدي لكن عبثاً حاولت. أما في الاتهام السياسي, فجليّ أن مصطفى جحا كان في حالة عداء شديد مع "حزب الله". مثله في ذلك مثل كثيرين من المفكّرين الشيعة الذين اغتيلوا في لبنان لعدم تأييدهم لإيديولوجيا الحزب وأجنداته".
ثمرة التضحيات
وتستمر الرسالة… من الأب إلى الإبن
بالانتظار, كلمة أخيرة وجّهها الإبن لوالده في هذه المناسبة: "إفرح حيث أنت لأن مشروعك وفكرك الوطني مستمرّان بينما تنهار المشاريع الأخرى وتتهاوى. بعد كل ما رأيناه من ظلم في لبنان وسوريا وإيران, تأكّدت لنا صوابية ما كنت تفعل وأن قتلك إنما كان قتلاً لمشروع شكّل خطراً على مسيرة إجرامهم. لكن الحقّ يبقى حقاً مهما طال الزمن. هم يذهبون ويسقطون ولبنان يبقى".
"الظلاميون يخشون الضوء, يخشون الكلمة, لأنهم يدركون أن القلم هو الرصاصة التي لا يستطيعون صدّها." أيدي الظلام اغتالت جحا لكن كتاباته بقيت شاهدة على أن الفكر الصادق لا تعدمه بضع رصاصات. عسى أن يستحيل هذا الاغتيال – واغتيالات أخرى سبقت ولحقت – شرارة لبناء مجتمع يحطّم أغلال التقوقع الفكري ويقدّر أهل العقول النيّرة… ولو بعد حين.