شهدنا قبل أيام – في 21 كانون الأول/ديسمبر الماضي تحديداً – الانقلاب الشتوي السنوي. وهي الظاهرة الفلكية التي تنعكس علينا بأقصر نهار وأطول ليل. لكن إذا كان النهار والليل يقصران ويطولان, خلال العام الواحد, تبعاً لحركة دوران الأرض حول الشمس, فكذلك هي حال يومنا تبعاً لحركة دوران الكوكب حول محوره. بعبارات أخرى, هي رقصة تذبذُب الـ24 ساعة على إيقاع كونيّ متدفّق.
قبل بضعة مليارات من السنين, دام يوم الأرض 19 ساعة فقط. بينما بلغ عدد أيام العام, قبل 300 مليون سنة, 450 يوماً وعدد ساعات كل منها نحو 21. أما دوراننا اليوم دورة محورية كاملة, فليس ثابتاً بأي حال من الأحوال. مثلاً, في حزيران/يونيو 2022, سُجّل رقم قياسي لأقصر يوم على مدار نصف القرن الماضي. وقد نصل إلى 25 ساعة لليوم الواحد في غضون 200 مليون سنة إذا ما استمر القمر بالابتعاد عن الأرض.
بما أن ظاهرة الاحتباس الحراري ترخي بظلالها الثقيلة على الكوكب وقاطنيه, فلنبدأ بها. سنة 2007, توقّعت دراسة لمعهد ماكس بلانك الألماني, نُشرت في مجلة "Geophysical Research Letters", أن يتسبّب تغيُّر المناخ في القرنين المقبلين بتقصير الأيام على الأرض – أو إطالتها – قليلاً. إذ مع ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات, تتمدّد الكتلة السائلة وترتفع مستويات السطح فيمارس الأخير ضغطاً إضافياً على قاع المحيطات. وهذا يُترجم تلاعباً بعقارب الساعة.
استخدم الباحثون يومها بيانات تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ لنمذجة كيفية تغيُّر ضغط المحيط مع ارتفاع مستوى سطح البحر. فاعتبروا أن انتقال الضغط من شأنه تحويل كتلة المحيط نحو محور دوران الأرض. وهكذا, تدور الأخيرة بوتيرة أسرع, ما من شأنه تقصير اليوم بنحو 0.12 ميلي ثانية بحلول العام 2200.
وأكّدت السنين المنحى ذاك. فقد لفتت دراسة لمؤسسة "سكريبس" لعلوم المحيطات, نُشرت في مجلة "Nature" العام المنصرم, إلى تأثير تغيُّر المناخ على كيفية قياسنا للوقت. ووصّف الفريق الأمر كما يلي: "تخيّلوا متزلجاً يدور على الجليد. فإذا مدّ ذراعيه, يكون دورانه أبطأ, لكن إذا ضمّهما إلى جسمه, فدورانه يتسارع. وهذا يوضح قانون الحفاظ على الزخم الزاوي – أي المبدأ الذي ينطبق على جميع الأجسام الدوّارة. فمع ذوبان الجليد القطبي, ينتشر الماء على المحيط بأكمله, ما ينتج التأثير عينه الذي يحدثه المتزلّج الذي يفرد ذراعيه".
نبقى مع التغيّر المناخي ونضيف عامل تبادلات الطاقة بين كتلة الأرض الصلبة والحركات السائلة للغلاف الجوي – أي الرياح وتغيّرات الضغط الجوي – ومحيط الكوكب عامة. ففي دراسة منشورة في مجلة "Journal of Climate" سنة 2011, حاول باحثون من مختبر الدفع النفاث التابع لـ"ناسا" وزملاء لهم من جامعة "باريس ديدرو" ومعهد فيزياء الكرة الأرضية الفرنسي, معرفة مدى ارتباط وتفاعُل كل من دوران الأرض, والزخم الزاوي الأساسي, ودرجة حرارة الهواء السطحي العالمي. فقاموا برسم خريطة لبيانات من نموذج لحركات السوائل داخل النواة وأخرى عن متوسط طول اليوم السنوي مقابل سلسلتين زمنيتين لمتوسط درجة الحرارة السطحية العالمية السنوية يعود رصدهما إلى عامَي 1880 و1860 توالياً.
استند الفريق إلى نتائج من نماذج المناخ الحاسوبية للغلاف الجوي والمحيطات لمراعاة التغيّرات في درجات الحرارة الناتجة عن الأنشطة البشرية. ثم جرى طرح التغيّرات في الأخيرة من إجمالي سجلات درجات الحرارة المرصودة لتوليد سجلات مصحّحة. فبدا أن البيانات غير المصحّحة ارتبطت بشدّة بتلك المتعلقة بحركات نواة الأرض وطول يومها حتى عام 1930 تقريباً – ثم راحت تتباعد باطّراد مع إشارة إلى توافُق التباعد مع اتجاه موثّق للاحتباس الحراري العالمي. واستمرت درجات حرارة الهواء السطحي العالمية بالارتفاع لكن دون تغييرات مقابلة في طول يوم الأرض أو حركة نواتها. أما فحص سجل الدرجات المصحّحة, فأسفر عن نتيجة مختلفة حيث بقي السجل مرتبطاً بقوة بطول يوم الأرض وحركة النواة.
من جانبه, شهد العام 2013 اكتشافاً مفاجئاً. إذ وجد علماء من جامعة جنوب كاليفورنيا دليلاً على سبب تذبذُب طول اليوم كل ست سنوات تقريباً بمقدار يزيد بعض الشيء عن 0.1 مللي ثانية. البحث الذي ورد في مجلة "Science Advances" نظر في بيانات زلزالية تعود للتجارب النووية السوفياتية تحت الأرض. وأظهر أحداثاً غريبة في النواة الداخلية (التي تتكوّن غالباً من الحديد والنيكل وتقع على عمق أكثر من 4800 كيلومتر) قد تحمل إجابات عن سبب تغيُّر طول اليوم.
اعتمد الباحثون, بمساعدة أجهزة قياس حسّاسة, على الموجات الزلزالية التي تتبدّل سرعتها واتجاهها أثناء انتقالها عبر الكوكب وتتناثر للخلف عندما تصل إلى نواته الداخلية. وتمكّنوا من قياس كيفية تناثُر الموجات من التجارب النووية المذكورة. فحدّدوا أوقات وصول الموجات المتناثرة نسبة لأحداث وقعت بين عامي 1969 و1974, لتُظهر البيانات تغيُّر دوران النواة, لا بل انعكاس اتجاهها بالفعل.
ونقفز إلى العام 2023. فقد عكف خبراء جيوفيزيائيون من جامعة "ووهان" على تحليل حركة المحور الدوراني للأرض بالنسبة لقشرتها. فلاحظوا انحرافاً طفيفاً في الحركة القطبية يحدث كل 8 سنوات ونصف تقريباً, ما يشير أيضاً إلى تذبذُب محتمل في النواة الداخلية. وأكّد الفريق, وفقاً لدراسة عرضتها مجلة "Nature Communications", الأمر من خلال قياس التحوّلات الصغيرة في طول اليوم حول العالم ومقارنتها بالاختلافات في الحركة القطبية مسبقة التحديد. أما السبب, فقد يكون ناجماً عن ميل بمقدار 0.17 درجة بين النواة الداخلية والوشاح الذي يقع تحت القشرة مباشرة.
أحدث الدراسات المتّصلة ظهرت في مجلة "Geophysical Research Letters" أيضاً أواخر العام 2024 ووضعها فريق من علماء الجيوفيزياء من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ. صحيح أنه, على المقاييس العقدية, تمّ ربط التقلّبات التي تتراوح بين جزئين وثلاثة أجزاء بالألف من الثانية بالتدفّقات واسعة النطاق في قلب الأرض السائل. لكن هناك تقلّباً آخر, غير معروف السبب, ركّز عليه البحث ومقداره ثلاثة إلى أربعة أجزاء بالألف من الثانية كل ألف عام.
استعان الفريق بورقة بحثية سابقة قدّمت تاريخاً شاملاً لدوران الأرض بناءً على بيانات الكسوف والاحتجابات القمرية منذ العام 720 قبل الميلاد. ولتحديد التقلّب الصحيح, احتاجوا إلى نمذجة دقيقة لتحوّلات حجم الجليد والماء وتحديد كيفية تغييرها لدوران الأرض. كما تعيّن عليهم أخْذ تأثيرات شدّ القمر والقشرة الأرضية المرنة بالاعتبار. واستخدموا لذلك الغرض شبكة عصبية إضافة إلى قياسات المجال المغناطيسي للكوكب – بعضها جرى تجميعه من الصخور. والنتيجة مرة أخرى: توافُق توقيت التقلّبات مع الحركة التي تدور رحاها عند حدود النواة والوشاح الأرضيّين.
ثمة بالطبع حاجة لمزيد من التعمّق, مدعوماً بنماذج فيزيائية أكثر تطوّراً, للإحاطة بالديناميكيات المذهلة لتذبذب أيامنا, بحسب العلماء. لكن قدرات الذكاء الاصطناعي الآخذة في التعاظم قد لا تتأخر في فك طلاسم العوامل التي يتراقص علي إيقاعها كوكبنا – وساعات يومه الـ24 – في رحلة دورانه المحورية.
الحرة بيروت ـ بقلم: روني عبد النور