بقلم د. فوزية عرفات_
استفاقت مدينة بعلبك, إحدى أيقونات التراث الثقافي في لبنان, على كارثة جديدة طالت تاريخها العريق. فقد شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي في ساعات الليل غارة مدمّرة استهدفت مبنى المنشية التراثي, الملاصق للمعابد الرومانية مقابل فندق بالميرا الشهير. حولت الغارة المبنى, الذي صمد لأكثر من مئة عام, إلى أنقاض, ليُمحى بذلك أحد أبرز معالم الحقبة العثمانية في بعلبك. وقد حصل التدمير بعد أيام فقط من غارة أخرى طالت السور الروماني للقلعة, الواقع قرب ثكنة غورو, ما أدى إلى انهيار نحو 30 مترًا منه.
تاريخ مبنى المنشية
يرجع تاريخ مبنى المنشية إلى الحقبة العثمانية, حيث كان يُستخدم لأغراض إدارية, إذ تعني كلمة "المنشية" المركز أو الساحة العامة. بعد سيطرة الفرنسيين على المدينة, تحول المبنى إلى مقهى اعتاد كبار الضباط الفرنسيين ارتياده. في وقت لاحق, آلت ملكيته إلى اللبناني حارث لطفي حيدر, الذي حوّله إلى معرض للأزياء التراثية, قبل أن يغلق أبوابه نتيجة تدهور الأوضاع السياحية في بعلبك. ظلّ المبنى مغلقًا ومهملًا لفترة طويلة, حتى دُمّر إثر الغارة الإسرائيلية الأخيرة.
الطراز المعماري العثماني-الإسلامي للمبنى
اتسم مبنى المنشية بطراز معماري عثماني-إسلامي بديع, إذ تظهر في تصميمه الأقواس نصف الدائرية والمدبّبة حول النوافذ والأبواب, بالإضافة إلى الشرفات والنوافذ والأبواب الكبيرة التي كانت تُضفي عليه هيبة وأناقة. استخدم الحجر الجيري الكلسي المحلي في بنائه, مما أضفى عليه طابعًا متناسقًا مع طبيعة البيئة اللبنانية.
معالم تراثية مهددة في بعلبك
لم يكن مبنى المنشية الأثر العثماني الوحيد في بعلبك, إذ لا يزال فندق بالميرا التاريخي, المبني عام 1872, ومبنى السراي الحكومي القديم الذي يعود تاريخه إلى عام 1884, يحتفظان ببعض من ذاكرة تلك الحقبة. كما توجد كنيسة سيدة المعونات, التي تأسست عام 1870. ويعتبر المسجد الأموي بالقرب من المعابد الرومانية شاهدًا على تنوع الإرث المعماري في المدينة. كما كانت قبة دورس, التي تعود إلى العصر الأيوبي وتتألف من قبة قائمة على ثمانية أعمدة من الغرانيت الأحمر, قد تعرضت سابقًا لتهديد التدمير بعد سقوط غارة قريبة منها.
تعتبر قلعة بعلبك والمباني المحيطة بها من المواقع التراثية العالمية التي تتمتع بحماية دولية, وفقًا لاتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة. تلزم الاتفاقية الأطراف المتنازعة بتجنب استهداف الممتلكات الثقافية أو تعريضها للخطر, باعتبارها جزءًا من التراث الإنساني المشترك.
إن تدمير مبنى المنشية يمثل خسارة جسيمة لبعلبك وتراثها المعماري والثقافي, ويجسد تهديدًا كبيرًا يطال الإرث التاريخي في المنطقة. تتوالى الاعتداءات التي لا تفرق بين معالم الماضي والحاضر, تاركة خلفها ندوبًا في الذاكرة الجماعية وطمسًا لجماليات معمارية وثقافية غنية بمعانيها وأصالتها.