منذ أيام, وقبل انبلاج الفجر, جرى إدخال شاحنتين محمّلتين بأكياس تحتوي على مئات الأطنان من الترابة إلى "مهنية الدكوانة", أحد مراكز الإيواء في قضاء المتن الواقع في محافظة جبل لبنان, بحجّة وضعها تحت خزانات المياه لرفعها عن الأرض. مشهد أثار شكوكاً وتساؤلات حيث تخوّف البعض من محاولة (بعض) النازحين تحويل المركز إلى متاريس وتحصينات. وفي ذلك شيء ممّا يعيد إلى الأذهان شبح العام 1975 والحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة.
تزداد المخاوف في الآونة الأخيرة من تأثيرات النزوح الداخلي على أمن واستقرار لبنان. أزمة يتوجّس البعض – في ظلّ الانقسام الحاصل – من احتمال استغلالها من قِبَل "حزب الله" (أو مصطادين بالماء العكر) لترسيخ نفوذ داخلي وانخراط في اشتباكات تنطلق شرارتها من مراكز الإيواء. وحيث أن الأخيرة بلغت طاقتها الاستيعابية القصوى جرّاء انتقال مئات آلاف العائلات هرباً من همجيّة القصف الإسرائيلي, تصبح التحديات الأمنية والمجتمعية واقعاً لا مفرّ منه, ما يستوجب إجراءات صارمة تقودها الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني منعاً للانزلاق نحو إقامة مربعات أمنية جديدة تحت أي مسمّى آخر.
ما حصل في "مهنية الدكوانة" غيض من فيض ما يرويه لبنانيون عن ممارسات بعض النازحين. فأهالي بلدة كفرشيما, مثلاً, يشتكون من السيارات التي تدخل إلى المنطقة ليلاً دون لوحات, وتخرج منها فجراً دون معرفة ما تحتويه والهدف من دخولها البلدة, في ظلّ حالة "موت سريري" للبلدية, كما وصفها الأهالي.
أما في بعض مناطق أقضية كسروان وجبيل والمتن ومحافظة البقاع (تحديداً مدينة زحلة وضواحيها), فهناك معاناة, بحسب الأهالي, من السلاح المتفلّت المنتشر بين بعض النازحين. وقد طالبوا الأجهزة الأمنية بتفتيش الشقق السكنية والسيارات التي تعود للنازحين الآتين من مناطق نفوذ "الحزب" وضبط أي أسلحة قد تتواجد فيها, تلافياً للمحظور ودرءاً للخطر.
في هذا السياق, ونتيجة الاستفزازات التي يقدم عليها بعض النازحين بقاعاً, توجّه محافظ بعلبك – الهرمل الأسبوع الماضي إلى هؤلاء قائلاً: "كونوا ضيوفاً "خفاف" وراعوا خصوصيات المناطق وابتعدوا عن أي تصرّف قد يستفزّ من استقبلكم".
بدوره, حذّر رئيس حركة "الخيار الآخر", ألفرد ماضي, الدولة والحكومة من خطر النازحين بالقول: "إنعاشاً للذاكرة الوطنية الجماعية ولكي لا تتكرّر وتُعاد مآسي الماضي, نذكّر بالفواتير الهائلة المثقلة بالجراح التي تكبّدناها كلبنانيين منذ العام 1948 ولا نزال نرزح تحت وطأتها. لا سيّما عندما سمحت الدولة بإقامة مخيّمات مؤقتة للّاجئين الفلسطينيين والتي ما لبثت أن تحوّلت إلى احتلال من قِبَل منظمة التحرير الفلسطينية واستدعت مقاومة لبنانية حقيقية أفضت إلى طرد المنظمة من لبنان".
من جهته, أصدر المجلس الأعلى في حزب "الوطنيين الأحرار" بياناً استهجن فيه الممارسات غير الأخلاقية واللامسؤولة التي تمارَس من قِبَل بعض النازحين في المناطق الحاضنة المضيفة, محذّراً من التعديات والاعتداءات على الأملاك الخاصة والعامة وترهيب المواطنين, تماماً كما حصل في مهنية الدكوانة وأحد فنادق منطقة الحمرا في بيروت ومطرانية مرجعيون, حيث شهر أحد النازحين سلاحه بوجه الكاهن ومن معه, ما ينذر بتفلّت أمني يستدعي تحرّك الجيش والقوى الأمنية.
هذه عيّنة عمّا يُطلَق من تحذيرات. فكيف يفسّر عِلم الاجتماع ما يحصل؟ في اتصال مع جريدة "الحرة", أشارت الأستاذة الجامعية والدكتورة في عِلم الاجتماع, عايدة الخطيب, إلى أن الواقع الذي فُرض على النازحين بين ليلة وضحاها ينعكس على سلوكهم وممارساتهم. "عندما يترك الإنسان بيته الآمن وينتقل الى أماكن غير آمنة ومفتوحة ليجد نفسه في الفضاء الفسيح, يصبح معرّضاً للخطر المجتمعي. وأكثر الفئات المتضرّرة هُم الأطفال وصغار السنّ بسبب هشاشتهم وغياب تحضيرهم النفسي لمواجهة الواقع المستجدّ. فيعيشون بالتالي حالة من عدم الأمان ويصابون بحالات نفسية, منها الاكتئاب والتقوقع بسبب الخوف وعدم فهمهم لما يدور حولهم".
من شأن ذلك أن ينعكس حكماً على جيل كامل من اللبنانيين الذين اضطروا للنزوح من مساكنهم التي قد تطول عودتهم إليها. فأماكن النزوح بمعظمها مؤسسات تربوية ومدارس وملاعب وصالات غير مؤهّلة لاستقبال العائلات والأولاد. وهكذا, تصبح العائلة مضطرة للعيش مع مجموعات أخرى لا تعرف عنها شيئاً. "هذا يضاعف الخوف على الأولاد من التعدّيات بشتّى أنواعها أو من رفاق السوء. فحين يعيش الإنسان في العراء يصبح أقرب إلى الحالة الحيوانية أكثر منها الحالة الإنسانية, فيتعاطى وكأنه في غابة لا حماية فيها ولا أمن. إذ بعد أن كان منزله مصدر راحته واستقراره النفسي, يصاب بانفصام في الشخصية في انعكاس ذات تداعيات خطيرة على جيل كامل مستقبلاً".
بالنسبة للتصرّفات اللاأخلاقية التي يشكو منها المسؤولون عن بعض مراكز الإيواء, لفتت الخطيب إلى أن أي تجمّعات سكنية كبيرة, وبالأخص الأماكن غير الآمنة وغير الخاضعة لرقابة مجتمعية, تشكّل بيئة خصبة للتحرّش الجنسي والتنمّر. "يسبّب النزوح نوعاً من الانكشاف المجتمعي فتخفت العلاقات الإنسانية ويتحكّم الفاسد وعديم الأخلاق بزمام الأمور. ومن الطبيعي في هذه الحال أن تمسي البيئة حاضنة لكافة أنواع الانحرافات, ومنها التحرّش والمخدرات والإدمان والكحول والسلاح وغيره, حيث يبحث الإنسان عن ملاذ آمن ينقله إلى عالَم الخيال الذي ينتشله من الواقع المرير الذي يتخبط فيه".
وعن سؤال حول ما إذا كانت البيئات النازحة ستتمكّن من الاندماج في بيئاتها الجديدة, رأت الخطيب أن النازحين ينحدرون من كافة الفئات والطوائف. "نحن لسنا شعباً واحداً بل شعوب تعيش على أرض وطن واحد. لقد استقبلت العائلات العديد من النازحين في بيوتها. وهذا يدلّ على انصهار وطني جيّد جداً. إنما بعض العادات والتقاليد, لا سيّما النظرة للمرأة, تختلف من منطقة لأخرى وقد ينتج عنها بعض الإشكالات. لكن, إذا نظرنا للوضع من ناحية إيجابية, يمكن لهذا الانصهار أن يخلق بيئة جديدة وطنية تجمع الناس في منطقة واحدة باندماج وطني كامل".
لا شكّ أن لبنان يمرّ بحالة عدم اتّزان وتغيُّر ديمغرافي شامل بدأ بالنزوح السوري بأعداده الكبيرة ويُستكمَل الآن بنزوح لبناني داخلي. وهو ما يدفع باتّجاه تشكيل نواة بيئات جديدة في العديد من القرى والبلدات اللبنانية لم يعتد عليها اللبناني قبلاً. وفي مثال على انغلاق بعض البيئات على نفسها, لا سيّما في القرى, توقّفت النشاطات الاجتماعية خوفاً من التعديات. "جاء النزوح اللبناني ليزيد الطين بلة. فلم يعد هناك أمان في عملية التنقل ولا في محيط العمل وبات نقل البضائع والأموال معرَّضاً للسرقة في أي لحظة لأن الجوع كافر. نحن في حالة ضياع. نريد دولة وثواباً وعقاباً. فالمجتمع اللبناني بخطر عائلي, تربوي, ثقافي واقتصادي ويجب دقّ ناقوسه لإعادة الأمور إلى نصابها. إلّا أن ذلك لا يتمّ سوى من خلال وقف الحرب وعودة النازحين للسيطرة على الانكشاف المجتمعي وضبط التشرذم الحاصل".
يأتي كل ذلك تزامناً مع تصاعُد مخاوف لبنانية داخلية من صفقات إقليمية قد تُبرَم على حساب الدولة اللبنانية. وقد يكون أحد تجلّياتها تفاهمات ملتبسة تبقي على سلاح "الحزب" في الداخل وتريح الحدود الجنوبية. هي مخاوف تثير قلق فئة واسعة من اللبنانيين غير الموافقين أصلاً على منطق الحرب. وآخر ما يتمنّاه الحريصون أن تستحيل بعض مراكز النزوح والتفلّت المواكِب مدخلاً لكارثة أمنية سبق للبنان أن شهد مثيلات مأساوية لها.
كارين عبد النور _ الحرّة