بقلم: روني عبد النور
قرار الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة "نوبل" في الفيزياء لعام 2024 عن اكتشافات أساسية حسّنت من تعلُّم الآلة باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية, ليس بالحدث "الأكاديمي" العابر. صحيح أن آلية التعلّم موضوع البحث ميزة رئيسة للذكاء الاصطناعي. لكن ماذا لو لُقّن الأخير قدرات الدماغ الهائلة بخلاياه العصبية الـ86 ملياراً وعشرات تريليونات تشابكاتها؟ هذا ما يحصل تماماً. فنحن بإزاء بُعد آخر تماماً من شأنه أن ينحو بالذكاء المذكور منحى تقمّصياً لأدوار البشر, أو التظاهر بها, على الأقلّ. والتظاهر, تحديداً, هو من المهارات الطليعية لجنسنا وأحد الأركان المؤسّسة لتطوّرنا.
آخر التأكيدات على تطويرنا لقدرة التظاهر منذ الصغر جاءت بها دراسة رائدة لجامعة "بريستول" البريطانية, نُشرت الشهر الماضي في مجلة "Cognitive Development". إذ استجوب الباحثون أكثر من 900 أب بريطاني وأميركي وأسترالي حيال أطفالهم ما دون الرابعة. فوجدوا أن بعض هؤلاء كانوا يشاركون في اللعب التظاهري في سنّ أربعة أشهر, بينما أظهر زهاء نصفهم قدرة على التظاهر ببلوغهم عامهم الأوّل.
وتبيّن أن الأطفال, ببلوغهم عامهم الثاني, يضيفون بالعادة مزيداً من الأفكار المجرّدة, وقد يتظاهرون بفعلٍ ما ليس لهم فيه أي خبرة. ومع اقترابهم من سنّ الثالثة, يستخدمون أجسادهم بالكامل للتظاهر بأنهم أشخاص آخرون أو حيوانات, أو حتى أشجار. وتشمل الأنواع الأخرى من التظاهر في سنّ الثالثة, لا سيّما مع تطوُّر المهارات اللغوية, سيناريوهات أكثر غرابة تصل حدّ تكوين صداقات خيالية.
بحسب الفريق, سلّطت النتائج الضوء على كون التظاهر عملية مبكرة, معقّدة ومتطوّرة, ما يساعد على بلورة مهاراتنا المعرفية والإبداعية والاجتماعية. إلّا أن ربط اللعب التظاهري بتنظيم المشاعر والمهارات اللغوية كما المنطق المعرفي وحلّ المشكلات ليس طارئاً على المجتمع العلمي. فقد شبك بحث لجامعة "بورتسموث" البريطانية وجامعة "لوند" السويدية سنة 2022 بين التظاهر والتفاعلات المرحة المبكرة لدى الأطفال. ذلك باستخدام أدوات معيّنة لتجسيد حالات أخرى (أي استخدام الدال لتمثيل معنى المدلول), ولعب الأدوار غير التقليدية قبل التحوّل لمخرجي عوالم خيالية.
لكن البحث المنشور في مجلة "Journal of Applied Psycholinguistics" تحدّث عن اختلافات في جودة التظاهر وتطوّره عبر سياقات وثقافات مختلفة. لذا, زعم المؤلفون أنه يجب التوقف عن تعريفه كمنتج نهائي للتطوّر المعرفي, إنما كمنتج تفاعلي ما بين الأفراد. وبالحديث عن التفاعلات تلك, أشارت دراسة لجامعة "كورنيل" الأميركية, نُشرت في مجلة "Psychological Science" سنة 2022, إلى أن لعب الأدوار العلمية قد يسهم في تضييق الفجوة المتنامية بين الجنسين على صعيد خوض غمار المجالات العلمية.
أراد الفريق اختبار ما إذا كان تولّي دور عالِم ناجح يحسّن من مثابرة الفتيات في ممارسة لعبة "الغرق أو الطفو". واشتملت اللعبة على عرض جسم يحوم فوق بركة ماء في منتصف شاشة كمبيوتر, حيث توجّب على الأطفال توقُّع ما إذا كان الجسم سيغرق أو سيطفو. وجنّد الباحثون للغرض 240 طفلاً تتراوح أعمارهم بين أربع وسبع سنوات, كونهم يطوّرون في هذه المرحلة إحساسهم بالهوية والقدرات.
وُزّع الأولاد من الجنسين على ثلاث مجموعات مختلفة قبل بدء اللعبة. فقيل لأعضاء المجموعة الأساسية إنهم سيكونون علماء في يوم التجربة. وبينما تلقّى أطفال مجموعة "القصة" المعلومة نفسها, رُويت على مسامعهم نجاحات عالِم من نفس الجنس – إسحاق نيوتن, للصبية, وماري كوري, للبنات. وأخيراً, طُبّق على أطفال مجموعة "التظاهر" معايير مجموعة "القصة" عينها, مع فارق الإيعاز إليهم بتقمُّص هوية العالِم الذي أُخبروا عنه.
طُلب لاحقاً من المشاركين تقييم مدى جودة أدائهم. وبغض النظر عن المجموعة, حصلت الفتيات على الإجابات الصحيحة بنفس القدر كالفتيان قرابة 70% من الوقت. وبرز أيضاً أن الفتيات اللاتي تقمّصن شخصية العالمة كوري واصلن اللعب لمدة أطول بواقع مرّتين, ولعبن بقدر ما لعب الفتيان تزامناً مع تعزيز سماعهنّ لقصة ما عن العالمة من تصنيفهنّ لأنفسهنّ كعالمات.
فلسفياً, يُعرّف أهل الاختصاص التظاهر بـ"التفكير المغاير للواقع". إذ وجدت دراسات سابقة أن بمقدور الأطفال الأكثر كفاءة تظاهرياً التفكير بشكل أفضل بالمسائل غير الواقعية والاحتمالات المختلفة. وهي قدرات كافية لتحيل اللعب التظاهري مدماكاً من مداميك شحْذ ذكائنا البشري. ففي حين يشرع الأطفال, بدائياً, باستخدام ذاك التفكير في سنّ الرابعة تقريباً, إلّا أنهم لا يتقنونه سوى في مراحل لاحقة, ليتماهى مع التظاهر, بحدّ ذاته, ببلوغ سنّ الرشد. بيد أن ثمة إشكالية هنا, كما تلفت عالمة النفس الأميركية, أليسون جوبنيك: ضرورة أن يفكّر المرء بالعالم الحقيقي وسيناريو بديل في آن.
والإشكالية ذات بُعد ثقافي أيضاً؛ فالبشر تطوّروا على نحو يساوي لدى البالغين بين التظاهر البريء والإيجابي وبين الكذب والخداع. كيف؟ بدلاً من مقاربة التظاهر كجزء من طبيعتنا البشرية, أنشأنا سياقات تحتّم على الفرد اعتماده صوناً لـ"الأنا" وتلميعاً لها. وهذا إنما يستدرج كثيرين إلى فخ "هويّاتي" يشوبه في أحيان كثيرة شيء من "سوء النية" (الواعية أو اللاواعية), بحسب تعريف الفيلسوف الوجودي الفرنسي, جان بول سارتر, كما يقول أمير زكي, أستاذ الفنون المتخصّص في التكنولوجيا الرقمية بجامعة "كاليفورنيا ريفرسايد" الأميركية.
والفخّ آنف الذكر يطرح سيلاً من الأسئلة حول تيهان الفرد بين جدوى التظاهر وعدمه وذوبان قدرته على التمييز بين الأشياء في إحالة للذات إلى وهم خالص. وهي أسئلة تتكثّف إذا ما عطفناها, كما استهلّينا, على قدرات الذكاء الاصطناعي التظاهرية. ونتكلّم بالتحديد عن "ولادة" روبوتات قادرة على التخفي خلف ستار بشري والتفاعل مع البشر عبر الوسائط الرقمية. فلنعُد إلى سنة 2019, مثلاً, حين تعمّقت دراسة لجامعة نيويورك – أبوظبي, نُشرت نتائجها في مجلة "Nature Machine Intelligence", بهذا التفاعل وتشعّباته.
انخرط الخاضعون للاختبار في لعبة تعاونية الطابع مع شريك, إنساناً أكان أو روبوتاً. وجاء ذلك تحريفاً للعبة معضلة السجين, حيث يتعيّن على المشاركين, في كل جولة, أن يختاروا بين التعاون (ضماناً للمكاسب) أو خيانة الآخر (تحقيقاً لفائدة على حسابه). وإذ تلاعب الباحثون بالمشاركين عبر تزويدهم بمعلومات صحيحة أو خاطئة عن هوية الشريك, راقبوا مستوى تحيُّز معاملة هؤلاء لشركائهم لو ظنّوا أنهم روبوتات ومدى تأثير ذلك على التفاعلات البينية.
أثبتت النتائج علوّ فعالية الروبوتات في حضّ الشركاء على التعاون كلّما نجحت بتمويه هويّتها. وقابل ذلك انخفاض في منسوب التعاون عند الكشف عن الهوية الحقيقية للروبوت. وهذا دفع بمولّفي الدراسة للتساؤل حول أخلاقية تطوير نظام كهذا وعن قدرة الروبوتات على التحكّم بشفافية إظهار هويّتها الحقيقية. تساؤل محقّ بالتأكيد. ففي تحليل لباحثين من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" في أيار/مايو الماضي, حُدّدت بالفعل حالات تقمّصت فيها الأنظمة المؤتمة الخادعة للخصوم أدواراً بشرية (وصولاً إلى تغيير سلوكها أثناء اختبارات السلامة الوهمية ورفع احتمالات تزويد المتفاعلين بشعور زائف بالأمان).
تناول التحليل, المنشور في مجلة "Patterns", برنامج "CICERO" الذي طوّرته شركة "Meta" قبل نحو عامين ونافس البشر بأدائه في لعبة استراتيجية غزو العالم, "Diplomacy". صحيح أن الشركة أكّدت إعداد البرنامج ليكون "صادقاً ومفيداً وألّا يطعن حلفاءه البشر بالظهر عمداً". لكن المفارقة تجلّت بكون الطعن في الظهر أحد أهم مرتكزات اللعبة. فنتيجة لفحص البيانات, لاحظ الباحثون حالات متعدّدة لجأ فيها البرنامج عمداً للأكاذيب, وتواطأ للإيقاع بلاعبين آخرين في لجج المؤامرات.
المعادلة بسيطة, إذاً: في حال تمكُّنت الأنظمة المؤتمة من تحسين قدراتها التظاهرية – الخداعية, قد يفقد البشر مفاتيح السيطرة عليها. وهي تُحسّن من تلك القدرات, فعلاً, في قالب تفاعلي أحاديّ الاتّجاه بين الطرفين. فقبل بضعة أشهر فقط, طُرح برنامج "GPT-4o" كأحدث إصدارات نظام الذكاء الاصطناعي الداعم لـ"ChatGPT". ذلك توازياً مع إطلاق "غوغل" لمساعد الذكاء الاصطناعي, "Project Astra". فالأوّل قادر على إجراء محادثات صوتية مع المستخدمين في الوقت الفعلي تقريباً, مظهراً سلوكاً شبه إنسانيّ؛ والثاني ذات قدرات مماثلة معزّزة بذاكرة بصرية متّقدة.
الآثار الأوسع نطاقاً لإطلاق العنان لهذه الأدوات "التظاهرية", المحاكية للمشاعر والسلوكيات البشرية, قد تحدّد منحى مستقبلنا البشري في السنوات والعقود المقبلة. لكن فلنستمع إلى ما ذهب إليه البروفيسور أنتوني كون, أستاذ الاستدلال الآلي في جامعة "ليدز" ومعهد "آلان تورينغ" البريطانيّين: "غالباً ما يشار إلى السمات الثلاث المرغوبة لأنظمة الذكاء الاصطناعي بالصدق, والمساعدة وعدم الإضرار. إنما يمكن لهذه الصفات أن تتضارب. فالصدق قد يخدش مشاعر أحدهم؛ والإجابة على سؤال حول كيفية تصنيع قنبلة قد تسبّب ضرراً لآخرين. لذا, قد يكون الخداع أحياناً خاصية مرغوبة للأنطمة تلك. وهذا يستدعي مزيداً من البحث في كيفية التحكّم بمنسوب صدقها للحدّ من آثارها الضارة المحتملة".
خاصية تثير بذاتها تخوّفاً آخر مشروعاً؛ إذ ليس ثمة ما يمنع أفخاخ "سوء النية" من أن تتربّص بالذكاء الاصطناعي لدى تقليده للتظاهر البشري, البريء منه والمخادع. وهو أحد المطبّات التي قد تفوق بانعكاساتها وقْع امّحاء الحدود الفاصلة بين العالمين الواقعي (البشري) والافتراضي (الآلي). فهل ثمة مبالغة, والحال كذلك, في اعتبار جائزة "نوبل" في الفيزياء لهذا العام أكثر بكثير من مجرّد حدث "أكاديمي" عابر؟