كتبت كارين عبد النور في جريدة الحرة_
ليس صدفة أن يتزامن إعلان قداسة الشهداء المسابكيّين الدمشقيّين الثلاثة, فرنسيس ورفائيل وعبد المعطي مسابكي, في الفاتيكان اليوم مع الأحداث الأليمة التي يشهدها الشرق الأوسط. صحيح أن الحدث دينيّ بذاته, لكن أبعاده تأتي في سياق يُخضع المجتمعات المشرقية لتمخّضاتِ متغيّرات سياسية واجتماعية جذرية. فلعلّ الإعلان يشكّل حافزاً لتعزيز روح الوحدة والتآخي والصمود بين أهل هذه الأرض في مواجهة التحدّيات.
قبل ظهر اليوم, أعلن البابا فرنسيس من الفاتيكان الإخوة المسابكيين الثلاثة قدّيسين في الكنيسة المارونية الجامعة. ذلك استجابة للالتماس الذي رفعه البطريرك الماروني, الكاردينال بشارة الراعي, بإسم سينودس الأساقفة الموارنة في السادس من تموز/يوليو 2022. وقد انسحب الالتماس أيضاً على الرهبان الفرنسيسكان الثمانية الذين استشهدوا مع الإخوة المسابكيين في دمشق على يد مسلّحين في العام 1860.
الإخوة الثلاثة العلمانيون وُلدوا في حيّ مسبك البراني في محلة النصارى في دمشق. وكان الأخ الأكبر, فرنسيس, متزوّجاً وله ثمانية أولاد, ويعمل في تجارة الحرير. وقد عُرف بنشاطه وحُسن إدارته واستقامته, إضافة إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين والغيرة على بيوت الله, مسيحية أكانت أم إسلامية. لذا, انتدبته البطريركية المارونية لإدارة أمورها المدنية, وولّته بعض العائلات اللبنانية (من آل الخازن والدحداح والبيطار وأبي اللمع وطعمه وغيرها) تيسير أعمالها وتصريف منتجاتها.
أما عبد المعطي, فكان متزوّجاً وله خمسة أولاد, يعمل كأستاذ لغة عربية في مدرسة دير الرهبان الفرنسيسكان, وكان حريصاً على تعليم حب الله وتجنُّب الخطيئة. ولمّا تقدّم في السنّ, فتح له أخوه فرنسيس حانوتاً, لكنه ما لبث أن أقفله بعد أن راح رأسماله يتناقص, بدلاً من أن يزيد, لتسامُحه في الكيل والسعر. بدوره, كان رفائيل عازباً, وهو الأخ الأصغر للعائلة, يثابر على الصلاة في الكنيسة نهاراً ومع العائلة مساءً, ويخدم باندفاع لا حدود له واضعاً نصب عينيه السيّد المسيح وأمّه العذراء.
في العام 1860, كان لشرارة الفتنة الطائفية التي اندلعت في لبنان وقعها على مدينة دمشق, حيث كانت المنطقة برمّتها تخضع للحكم العثماني, والصراع الطائفي في تصاعُد مستمرّ. وقد شهدت سوريا ولبنان مجازر طائفية أودت بحياة الآلاف, خاصة في جبل لبنان ودمشق. بينما كانت حلب مركزاً تجارياً ودينياً مهماً, وتحتوي على مجتمع مسيحي مزدهر. لكن, مع اشتداد حدّة التوتّرات الطائفية, فرضت السلطات العثمانية ضغوطاً متزايدة على المسيحيين, ما استجلب موجات من العنف ضدهم.
في هذا السياق, ثار المتضرّرون من الوضع القائم آنذاك وهاجموا الحي المسيحي في باب توما. وكانت المذبحة الرهيبة ليل 10-11 تموز/يوليو, حيث قام المنفّذون بطلب الإخوة الثلاثة بالإسم من بين المسيحيين الذين اختبأوا في تلك الليلة المشؤومة في دير الفرانسيسكان في دمشق. وإذ تعرّض الدير للهجوم, طلب المضطهِدون من الإخوة الثلاثة إنكار إيمانهم, غير أن فرنسيس أجاب بحزم: "نحن مسيحيون وعلى دين المسيح نموت". فضُربوا حتى الموت ونالوا إكليل الشهادة ليصبحوا, مع ثمانية من الرهبان الفرنسيسكان, رمزاً للتضحية والوفاء.
في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 1926, وخلال أحداث الثورة السورية الكبرى, أعلن الفاتيكان الشهداء فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل طوباويّين, في حدث بارز في تاريخ الكنيسة المارونية الروحي. وها هي الكنيسة تعلنهم اليوم قدّيسين وسط المذابح التي تُدمي المنطقة, ليكونوا علامة مشرقة ودرساً لتعليم الانفتاح على الآخر دون خوف, وتكوين شعب يحترم الإنسان وينبذ التعصّب والقتل.
ذخائر القدّيسين الثلاثة, ومعهم الرهبان الفرنسيسكان الذين قتلوا في نفس الليلة, عُرضت داخل صندوق زجاجي في كنيسة دير اللاتين في دمشق, المعروف بالدير الكبير. ثمّ نُقلت إلى كاتدرائية مار أنطونيوس في مطرانية دمشق المارونية في باب توما. مع الإشارة إلى أن أبرشية دمشق كانت تمتد في زمن المسابكيين من ساحل المتن مروراً بكسروان في لبنان, وصولاً إلى الشام.
وجرى العثور في بلدة عشقوت الكسروانية على رسوم ورقية وقماشية موضوعة داخل المقرّ الصيفي لأبرشية صربا المارونية, تعود إلى زمن التطويب وتتناول سيرة حياة الإخوة الثلاثة. كما أن هناك مدفنين في منطقة رأس النبع في بيروت لأحفاد فرنسيس وعبد المعطي, ما يعزّز الروابط الروحية والتاريخية بين أتباع القديس مارون في المنطقة والعالم.
يقول راعي أبرشية صربا المارونية السابق ورئيس اللجنة الأسقفية المارونية لقضية الإخوة المسابكيين في لبنان, المطران غي بولس نجيم: "هي رحلة عيش بطولة الفضائل من قِبَل خدّام الله الثلاثة نحو القداسة دون حاجة إلى إثبات أعجوبة, لكونهم شهداء الإيمان. فالقداسة ليست وقفاً على الإكليروس بل استجابة لدعوة المسيح بأن نكون كاملين. لعلّ الله يمنّ علينا جميعاً بوحدة القلوب, فنكون يداً واحدة في تحقيق مشيئته".
إن إعلان قداسة الشهداء المسابكيين الثلاثة ليس حدثاً دينياً معزولاً, بل هو تعبير عن مسيرة طويلة من النضال الروحي والاجتماعي. وفي زمن الحروب والأزمات المتناسلة في لبنان وسوريا وفلسطين وسائر المنطقة, تأتي هذه المناسبة للتذكير بأهمية التمسّك بالإيمان في مواجهة الصعاب, والتأكيد على أن التضحية من أجل الوحدة والقيم جزء لا يتجزّأ من الهوية المشرقية. وكلّنا أمل بأن يشفع الشهداء القدّيسون بشرقنا الجريح ليحلّ السلام في أرجائه.