مقلقة هي "التلميحات" عن تهجير شيعة لبنان التي بدأت تلوح في أفق تداعيات الحرب الدائرة, بعد فتح باب النزوح إلى العراق على مصراعيه. حركة يصفها البعض بالمشبوهة بمبرّرات طائفية وإنسانية. إذ, بحسب الهلال الأحمر العراقي, تجاوز عدد اللبنانين الذين لجأوا إلى العراق هرباً من الحرب 8 آلاف فرد, معظمهم من الطائفة الشيعية. وهو رقم يُتوقع أن يشهد ارتفاعاً في الأيام القليلة المقبلة.
سبق لوزارة الهجرة والمهجرين العراقية أن دعت المواطنين اللبنانيين في العراق للتسجيل ضمن قاعدة بيانات الوزارة من أجل تأمين احتياجاتهم الضرورية وتقديم كل ما أمكن لخدمة الأسر النازحة إلى حين انتهاء الأزمة في لبنان. هذا وأصدرت السفارة العراقية في العاصمة السورية, دمشق, مطلع الأسبوع تعليمات أكّدت فيها على إمكانية دخول النازحين اللبنانيين بسياراتهم الخاصة إلى العراق. من جهتها, استقبلت كوادر وزارة الهجرة والمهجرين العراقية مجموعات من العائلات اللبنانية في منفذ القائم الحدودي مع سوريا مقدّمة لهم التسهيلات الضرورية.
في غضون ذلك, اقترح رئيس مجلس محافظة النجف على البرلمان العراقي استثمار الخبرات والكفاءات الموجودة بين صفوف النازحين اللبنانيين من خلال التعاقد معهم للعمل في المؤسسات الحكومية. كما دعا الوزارات المعنية إلى النظر بالمقترح وإجراء الإختبارات الضرورية اللازمة وتوقيع عقود عمل معهم حسب الضوابط المعتمَدة.
الحديث عن توطين المواطنين العرب في العراق راح يدور مع اندلاع حرب غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. فكان الكلام عن توطين الفلسطينيين الهاربين من القطاع المنكوب كون المشروع الإسرائيلي يهدف إلى إخلائه من السكان. وكانت محافظة الأنبار العراقية الأكثر ترشيحاً لاستقبال الفلسطينيين النازحين, غير أن الفكرة قوبلت برفض شديد من قِبَل القوى السياسية الشيعية العراقية. ومع تدحرُج الأحداث في لبنان وتفاقُم حركة النزوح, عادت فكرة توطين شيعة لبنان في العراق إلى الواجهة من جديد.
صحيح أن ثمة من لا يزال يستبعد أن يكون الطرح جزءاً من النقاشات السياسية الداخلية الراهنة باعتبار أنه يندرج ضمن الشائعات الناتجة عن الصراعات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة. إلّا أن بعضاً آخر ذهب حدّ اعتبار أن تهجير الشيعة اللبنانيين إلى العراق قد يكون ذات تداعيات إيجابية قد يستفيد منها أكثر من طرف, لاسيّما إسرائيل وإيران وفقاً لمصالح كل منهما الإقليمية والجيوسياسية.
من ناحيتها, أفادت مصادر مطّلعة لجريدة "الحرّة" بأن تهجير الشيعة, خصوصاً من مناطق جنوب لبنان الحدودية, هو جزء من المخطّط الإسرائيلي. إذ أن ذلك يسهم في إضعاف "حزب الله" الذي يعتمد بشكل رئيس على القاعدة السكانية الشيعية كخزّان لتجنيد المقاتلين, ما قد يزعزع قوّته السياسية والعسكرية التي تشكّل بشقّيها تهديداً لـ"أمن" إسرائيل. أضف إلى ذلك تقليص النفوذ الإيراني المستنِد إلى "الحزب" كحليف استراتيجي في لبنان. ناهيك بتأمين استقرار أكبر على الحدود الشمالية للدولة العبرية, من منظار إسرائيلي, كون الجنوب اللبناني يُعدّ معقلاً لـ"الحزب" ومسرحاً محتملاً لأي مواجهات إضافية مستقبلية.
وتشير المصادر نفسها إلى أن انتقال أعداد كبيرة من شيعة لبنان إلى العراق يأتي بإفادة أيضاً على طهران لناحية تعزيز نفوذها في العراق بتأثيرها الواسع على الحكومة والجماعات الشيعية الموالية لها. والارتفاع في أعداد الشيعة المؤيّدين للنفوذ الإيراني في بلاد الرافدين يساهم في تدعيم مواقف الجمهورية الإسلامية وتحكُّمها في إدارة العديد من الشؤون الإقليمية, ويساعد في إعادة تنظيم سلطتها عبر تحويل بعض من عناصر "حزب الله" إلى العراق – كقاعدة بديلة – تشكيلاً لجبهة مقاومة جديدة بوجه المصالح الغربية والإسرائيلية, في حال تعرّضت مصالحها في لبنان لأخطار مستقبلية.
ولا تستبعد المصادر أن يُنفَّذ المخطط آنف الذكر بمباركة إيرانية, حيث قد تقاربه طهران كفرصة للتخفيف من الضغوط الدولية والإقليمية على لبنان, عامة, و"الحزب" خاصة, دون التضحية بأوراق نفوذها الإقليمي الأخرى. فمن نافل القول إن النزاعات الإقليمية الملتهبة وما تنطوي عليه من صراع طائفي سنّي – شيعي, بما في ذلك سوريا واليمن, تزيد من تعريض المسرحين اللبناني والعراقي للضغوط الإقليمية والدولية المذكورة.
لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى الجذور التاريخية والثقافية العميقة التي تمتاز بها العلاقات بين شيعة لبنان وشيعة العراق. وهي وشائجٌ تلعب القوى السياسية دوراً أساسياً في الحفاظ عليها. لكن رغم إمكانية أن يؤدّي تغيير التركيبة السكانية في لبنان – نتيجة التهجير ولا سيّما في ظلّ تواصُل صراعات النفوذ متعدّدة الجبهات بين إيران ودول الخليج وتركيا وإسرائيل – إلى إعادة توزيع في بعض مراكز النفوذ بين القوى الإقليمية تلك, إلّا أنه لا وجود حتى الساعة لأي توجّهات رسمية, علنية أقلّه, تشير في اتّجاه عملية النقل أو التهجير موضوع البحث.
المتحدّث بإسم وزارة الهجرة والمهجرين العراقية, علي عباس جهانكير, نفى أمس المزاعم المتّصلة بالرغبة في توطين النازحين اللبنانيين في العراق, وذكر أن "القصة لا تتعلّق بالتوطين, إنما هناك مدن للزائرين وفنادق استوعبتهم في كربلاء والنجف, بصفتها مهيّأة لاستقبال النازحين وبالإمكان استثمارها بدلاً من بناء المخيمات التي تستغرق عملية بنائها أسابيع". قابَل ذلك كلام لناشطين عراقيين عن محاولات سياسية لتوطين اللبنانيين في مدن عراقية, وسرّب بعضهم تسجيلات تشي بأن محافظة ديالي هي إحدى المناطق المرشّحة لاستقرارهم.
لا بدّ في خضمّ الكمّ الهائل من المعاناة المصحوب بغموض عمّا ستؤول إليه الأمور ألّا يتمّ الانتقاص من الدور الهام الذي يلعبه التعاضد الإنساني سواء بين اللبنانيين أنفسهم أو بينهم وبين العراقيين (وأشقّاء آخرين). لكن الهواجس تتأجّج توازياً مع عجز الدولة اللبنانية عن اجتراح حلول ومع تساؤل عن قدرة العراق, الذي يعاني ما يعانيه من تحديات داخلية (على مستوى الأمن والاقتصاد والبنية التحتية), على تحمُّل "صفقات" تتجاوز بأبعادها البعد الإنساني البحت.
كارين عبد النور _ الحرة