وسّعت إسرائيل بيكار الحرب في الشرق الأوسط, ودخل لبنان رسميّاً في المعمعة دون ضوابط أو قواعد اشتباك محددة بعد أحد عشر شهراً من المناوشات الحدودية والاستهدافات المحدودة بين تل أبيب وحزب الله.
فُرضت الحرب الشاملة كأمر واقع بعد فشل الدبلوماسية في التوصل إلى اتفاق لفصل جبهة لبنان عن غزة, ووقف إطلاق النار والسماح بعودة المهجرين من شمال إسرائيل وجنوب لبنان إلى ديارهم, وضمان عدم تعرضهم للقصف.
وبات بالإمكان إضافة السابع عشر من أيلول (سبتمبر) إلى لائحة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023, والثاني عشر من تموز (يوليو) 2006, بوصفه اليوم الأول لبدء الحرب المباشرة, حيث أقدمت إسرائيل على تفجير أجهزة البايجر ثم اللاسلكي, وما تلاه من استهدافات لاجتماع قوة الرضوان, وصولاً إلى الإيذان بالعملية الجوية الشاملة المستمرة حتى الآن.
ووسط المطالبة العربية والدولية بوقف الحرب الدائرة, لا تلوح في الأفق أيّ إشارات تدل على اقتراب وقف إطلاق النار أو إنهاء إسرائيل لعملياتها الحربية, حيث أطلقت العنان لحملة برية في جنوب لبنان.
وأصبح واضحاً أن هناك رغبة إسرائيلية كبيرة بعدم وقف الحرب في هذه المرحلة, فشروط تل أبيب قبل شهر تختلف عما هي الآن, وأخذت منحى تصاعدياً من وقف إطلاق النار إلى الانسحاب من منطقة جنوب الليطاني, ثم التطبيق الكامل للقرار 1701, وصولاً إلى عدم القبول بما هو أدنى من إدخال القرار 1559 حيز التنفيذ.
دافع إسرائيل الجامح لمواصلة الحرب له أسباب كثيرة في حساباتها, ويعززه على الطرف الآخر تضارب غير مفهوم في الموقف اللبناني في هذه الفترة الحرجة, حيث يتبارى السياسيون وقادة الطوائف في إطلاق تصريحات غريبة ومبهمة ومتناقضة. وأبسط مثال على ذلك كلام رئيس الوزراء نجيب ميقاتي الذي تعهد بتطبيق القرار 1701 نافضاً يديه من موضوع وقف إطلاق النار, علماً بأن الجميع يدرك أن القرار في النهاية هو قرار حزب الله, لا الحكومة أو مجلس النواب.
ويعلم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن بإمكانه متابعة خططه دون أي إزعاج على الأقل حتى يوم الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر), موعد الانتخابات الأميركية, وبناءً على نتائجها سيقرر مسار المواجهة. فإذا فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب, سيواصل حملته طيلة فترة الانتقال السياسي في واشنطن محاولاً تعزيز مكاسبه حتى موعد التوصل إلى تسوية تكون بمثابة هدية لإدارة الرئيس الأميركي الجديد. حسابات نتنياهو ستختلف إذا نجحت كامالا هاريس في خلافة رئيسها جو بايدن, لأن المرشحة الديمقراطية لن تكون بحاجة إلى إجراء تغييرات شاملة في إدارتها كحال نظيرها الجمهوري, وبالتالي ستكون عملية الانتقال السياسي ضمن البيت الواحد أسهل بكثير, ولن تكلف جهداً كبيراً.
ولنتنياهو حساباته الداخلية أيضاً, فمنذ بدء المواجهات المباشرة مع حزب الله انتهت إلى حد ما التظاهرات التي كانت تخرج في تل أبيب كل أسبوع لوقف الحرب وإعادة الأسرى, وقفز إلى المواجهة موضوع أمن إسرائيل وأصبح يعلو على كل شيء.
وبلا أدنى شك تعيش الحكومة الإسرائيلية فترة من النشوة والزهو بسبب الإنجازات التي حققتها ضد حزب الله, فمن استهداف رعيله الأول ومجلسه الجهادي, ثم أمينه العام, ومخازن أسلحته ومقراته, وأيضاً الاستهداف الممنهج لرجال الدين المنضوين في الحزب والذين يمكن اعتبارهم كمشايخ افتاء له, حيث قتلت إسرائيل عدداً كبيراً من المشايخ وأئمة الجوامع والحسينيات, بحيث بات واضحاً أن الحملة لا تستهدف السلاح فقط بل حتى الأيديولوجيا, ولا يمكن إغفال تفجير أجهزة الاتصالات والخرق الاستخباراتي الفاضح الذي ظهر.
ومع قدراتها العسكرية, تعوّل إسرائيل على عوامل لبنانية داخلية ستربك حزب الله وتدخله في مستنقع أشد خطورة من الحرب, وتأثيراتها أكثر فداحة من تفجير أجهزة البايجر حتى. فالحملة العسكرية قد تفضي في نهاية المطاف إلى إبعاد خطر الحزب عن إسرائيل, وتشكيل حزام آمن تُعيد تل أبيب من خلاله أفراد ما كان يُعرف بجيش لحد وأبنائهم وعوائلهم الذين خرجوا من جنوب لبنان مع الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 ليقطنوا فيه, ولكن الصراع سينتقل إلى الداخل, حيث إن استمرار الحرب يعني عدم قدرة النازحين الذين يفترشون الطرقات والأماكن العامة ومراكز الإيواء على العودة إلى منازلهم وبلداتهم. وسيكون الرهان على تأليب الحاضنة الشعبية التي تشعر بأنها فقدت كل شيء من الأرواح إلى الأملاك وحتى الردع مع تل أبيب.
هذه الضغوط قد تنفجر أيضاً مع باقي المكونات اللبنانية الأخرى حيث يتواجد النازحون. وينبغي الإشارة إلى أن النسيج اللبناني يختلف عن نسيج قطاع غزة لجهة التعددية الطائفية والمذهبية. وسيعود الحديث عن النظام السياسي القائم وتصريحات نتنياهو حول تغيير الواقع في لبنان مع السؤال الكبير الذي سيُطرح عن جدوى وهدف استمرار سلاح حزب الله طالما لم يعد قادراً على الحماية, وفعاليته لا يمكن أن تصل حتى إلى الحدود مع إسرائيل.