عند ولادة طفل جديد في معظم بلدان العالم تستقبله عائلته بالورود والبالونات الملوّنة, والحلويات الطازجة, والضحكات الممزوجة بدموع الفرح والامتنان, وكان هذا هو حال عائلات لبنان منذ زمن غير بعيد, أما الآن, وسط تدهور الوضع الأمني مع تصاعُد القصف الإسرائيلي, خصوصاً على جنوب البلاد وضاحية بيروت الجنوبية, بات حال الأهل الذين ينتظرون مولوداً جديداً مختلفاً.
"قلق وخوف وحزن وإحباط"... بهذه الكلمات تصِف منال, الشابة النازحة من بلدة الغازية بجنوب لبنان وضعها, حيث اضطرت إلى اللجوء لمركز إيواء بعد ولادة طفلها الثاني مباشرةً.
وضعت منال طفلها أحمد, البالغ من العمر 19 يوماً, في 20 أيلول, قبل بضعة أيام من تصاعُد حدة الضربات الإسرائيلية على مناطق لبنانية عدة, وتشرح في حديثها لـ"الشرق الأوسط": "ولدتُ ابني أحمد في مستشفى الراعي في الغازية, بقضاء صيدا, وكانت قرى الجنوب تتعرض للقصف باستمرار".
وتابعت: "عندما خرجت من المسشتفى كان الوضع قد تأزّم بالفعل في منطقتنا, فعرفت حينها أن أحمد لن يتمكن من التعرّف جيداً على منزله أو بلدته للأسف".
وبعد 3 أيام من الولادة توجّهت منال رُفقةَ طفلَيها وزوجها وعائلته, إلى بلدة كفرحتى في الجنوب, ولكن تزامناً مع وصولهم إلى هناك بدأ القصف ينهمر, إلى جانب منزل أقاربهم حيث لجأوا.
وتوضح منال: "كنا جالسين وسمعنا أصوات القصف, وهنا بدأ الخوف يتغلغل في قلبي أكثر, فطلبت من زوجي التوجه إلى منطقة آمنة, في محاولة لحماية طفلَينا قدر الإمكان". ولدى منال طفل آخر يبلغ من العمر سنة و9 أشهر فقط.
ومن كفرحتى بدأت رحلة أحمد, أصغر نازحِي الحرب التي يعيشها لبنان, الصعبة والمتعبة للوصول إلى الوجهة التي يأخذ منها مسكناً آمِناً اليوم.
تشرح منال: "خرجنا على عجَلة من أمرنا, وتوجّهنا نحو طريق الأولي في صيدا بانتظار سيارة أجرة لنقلنا إلى جبل لبنان, انتظرنا وصول السيارة لنحو ساعة من الوقت, بينما كان أحمد يبكي باستمرار بسبب الزحمة المحيطة بنا".
ففي يوم الاثنين 23 أيلول, توسّعَت أهداف إسرائيل في القصف, وبدأت تطول قرى وبلدات جنوبية غير حدودية, ووصلت الضربات إلى ضاحية بيروت الجنوبية, الأمر الذي سبّب موجة نزوح ضخمة وغير مسبوقة في يوم واحد, حيث علق المواطنون بسببها على الطرقات لساعات طويلة, وصلت أحياناً لأكثر من 12 ساعة.
وتضيف منال: "توجهنا من صيدا مباشرة إلى منزل صديق لزوجي في جبل لبنان, وقضينا نحو 5 ساعات على الطرقات. كان أحمد يشعر بالضيق طوال الرحلة, بسبب التوقف المستمر وسط الزحمة, والأصوات المرتفعة المحيطة, ويبدو أنه عانى من آلام المغص, ولم يكن بحوزتي أي دواء لعلاجه".
وصلت منال وطفلاها رُفقةَ زوجها وعائلته أيضاً إلى منزل صديقهم في بلدة بالمتن في جبل لبنان, ولاقوا ترحيباً من قِبل عائلة الصديق, حسب قولها. ولكن بعد مرور يوم واحد فقط تعرّض الرجل "لتهديد" من قِبل صاحبة المنزل الذي يستأجره في البلدة, حيث طلبت منه "التخلص من النازحين, أو مغادرة منزلها معهم".
ووسط هذه الحادثة اضطرت منال وعائلتها إلى النزوح مجدّداً, وتقول: "في منتصف ليل اليوم الثاني, وضّبنا أغراضنا مجدّداً, وخرجنا مع أحمد من المنزل وتوجّهنا إلى أقرب مركز إيواء, بسبب عدم قدرتنا على تحمّل تكلفة الإيجارات المرتفعة, ولم نجد إلا مدرسة رسمية تؤوينا".
ويعيش أحمد اليوم رفقةَ عائلته في مدرسة الخريبة الرسمية بجبل لبنان, داخل صف مدرسي لا يحتوي إلا على فراش ومساعدات متواضعة أمّنها لهم سكان البلدة, بينها مواد غذائية وحليب أطفال وألبسة وأغطية ملوّنة تساعدهم على الاحتماء من البرد, مع تدنّي درجات الحرارة على أبواب الشتاء.
وعن أغراضها وحاجاتها الخصوصية, تقول المرأة المنهكة بعد ولادة صعبة, وأيام أصعب لم تتمكن خلالها من الاستراحة: "كنا قد اشترينا أغراضاً كثيرة لأحمد لنستخدمها بعد ولادته, من الملابس إلى زجاجات الحليب والحرامات والألعاب, لكنني لم أتمكن من أخذ شيء معي إلا الأمور الأساسية بسبب النزوح المستعجل".
تشرح منال لـ"الشرق الأوسط": "لم أسترح منذ الولادة, وأشعر بإنهاك, الأم الجديدة في الحالات العادية يجب أن تهتم بنفسها, لكنني أعاني من قلة الخصوصية".
وبالرغم من أن بعض الجمعيات وسكان البلدة تمكّنوا من توفير المياه الدافئة والمستلزمات الشخصية لمنال وطفليها للاستحمام, فإنها تقول: "لا شيء مثل راحة منزلك, وهنا لا توجد أي خصوصية... كل شيء مُتعِب, والوضع النفسي صعب, لا يمكن لأحد أن يفرح وهو نازح, مهما كانت المناسبة".
وتضيف منال: "لا نعرف أي شيء عن وضع منزلنا في الغازية, هناك أخبار متناقلة تتحدث عن تعرّضه لأضرار كبيرة, والخوف الآن على مصيرنا بعد انتهاء الحرب".
قدّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن هنالك نحو 300 ألف طفل نازح في لبنان, من مناطق مختلفة.
ووصلت أعداد النازحين داخلياً في البلاد إلى أكثر من مليون شخص, تركوا منازلهم وممتلكاتهم وذكرياتهم, ولجأوا إلى أماكن أكثر أماناً لعلها تحميهم من القصف والدمار قدر الإمكان.
تامارا جمال الدين _ "الشرق الأوسط"