اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله "السيد حسن نصرالله هو بلا ريب ضربة كبرى للحزب وللمحور المنتمي إليه, وخصوصا أنه حصل في المرحلة الأخيرة المتسمة بالحراجة منذ عملية "طوفان الأقصى", والحزب ونصرالله الرمز الأبرز لهذه المرحلة في المعركة التي انطلقت إثر تلك العملية.
لكن المهمة الكبرى عند كل من الحزب "والمحور الممانع", صارت بعد ضربة الاغتيال كيف يمكن ملء الفراغ المدوي الذي نجم عن غياب قائد بهذا الدور الريادي الاستثنائي؟
المعلوم أن وضع الحزب قبل تولّي نصرالله زمام قيادته شيء, وبعد تولّيه المسؤولية الأولى فيه طوال 32 عاما شيء آخر مختلف تماما. فعندما أملت تطورات عام 1992 تولّي الرجل خلافة سلفه السيد عباس الموسوي بعدما قضى مثله مقتولا بفعل غارة إسرائيلية استهدفته إبان عبوره بلدة تفاحتا الجنوبية في طريقه من جبشيت إلى الضاحية الجنوبية, كان الحزب يخرج لتوه من مرحلة صعبة جدا, إذ كان قد خاض حروبا دائرية مع معظم القوى المحلية, فضلا عن اصطدامه بالسوريين وقوى اليسار, ومثّل الحزب حينها حالة نافرة وعصبية. ولم يكن ذلك غريبا, فهو كان قد انطلق في رحلة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي, لكنه كان متماهيا إلى درجة الاندماج مع الثورة الإسلامية في إيران, رافعا يومها شعار إقامة حكم إسلامي في لبنان.
ومع دنوّ نهايات الحرب الأهلية وبروز اتفاق الطائف أواخر الثمانينيات, قيّض للحزب اختيار قيادة جديدة رمزها السيد عباس الموسوي صاحب الرؤى الانفتاحية والقطيعة مع مرحلة سلفه الذي طلب منه التنحي ففعل على مضض.
وخطا الموسوي خطوات سريعة في تبنّيه أداء جديدا, ونجح في إظهار هوية جديدة للحزب, إذ ظهر للمرة الأولى في محافل بيروت السياسية مع قيادات وقوى لم يكن الحزب مستعدا سابقا لأي تلاق أو تحاور معها, مقدما دليلا على تحول في سلوك الحزب.
هذه المهمة استكملها السيد نصرالله الآتي إلى الحزب من حركة "أمل" التي تركها بعيد اجتياح 1982 احتجاجا على مشاركة رئيسها في "جبهة الإنقاذ" التي أعلنها الرئيس الياس سركيس.
وقرر نصرالله تنكّب مهمة صعبة وشاقة, إذ كان عليه أن يجبر فئة من الحزب على تقبل موجبات الانعطافة والتحول التي انطلقت من جهة, وأن يقنع الخارج من جهة أخرى بأن الحزب لم يعد حالة طافرة, وأنه صار مستعدا للتعايش والتفاعل مع كل من يستقبله.
وهكذا اكتملت مع نصرالله رحلة القطيعة مع ماض يعتبره البعض مرحلة ظلامية, وكان لزاما عليه أن يمضي في خطوات أبعد وأعمق لكي يثبت بالبرهان صحة ما هو في صدده. وأول صعود ذي قيمة كبرى للحزب بقيادة نصرالله كان في أول انتخابات نيابية جرت بعيد الشروع في تطبيق اتفاق الطائف عام 1992, حينها أظهرت نتائج تلك الجولة الانتخابية أن الحزب حالة منتشرة بقوة في الوسط الشيعي, وأنه استطرادا رقم صعب في المشهد السياسي اللبناني. من يومها بدأ نجم نصرالله بالصعود وبدا كحالة جاذبة, وخصوصا أن حالة "المقاومة الإسلامية" التي يقودها الحزب ويرفدها بمزيد من المقاتلين المندفعين, حققت إنجازات ميدانية يعتدّ بها, وأثبتت بالدليل والبرهان أنها خلافا لتجربة آخرين, لا تخوض مقاومة استعراضية بهدف الإمساك بأكبر قدر من أوراق التفاوض عند الجلوس إلى الطاولة.
أما المعيار الأبرز لازدياد شعبية نصرالله فكان يوم سقط نجله هادي مع ثلة من رفاقه في عملية كانوا ينفذونها في منطقة الجبل الرفيع في جبل الريحان, فبدا نصرالله مجسدا حالة غير مسبوقة في سيرة القيادات, كأول قائد يسمح بنزول ولده إلى الميدان حيث سقط وأسرت جثته. إضافة إلى ذلك, قدم الحزب أداء نوعيا في ميدان المقاومة مثل عملية انصارية التي ظهر جليا أن الحزب استدرج فيها الإسرائيليين إلى مكمن نصبه لهم.
وذروة صعود الحزب وزعيمه تجسدت في جلاء الإسرائيلي عن الجنوب في أيار 2000, ونجح الحزب في تجيير ذاك الانسحاب وتصويره على أنه تحقق بفعل مقاومته.
من البديهي أن هذه المحطة الاستثنائية رفعت مكانة الحزب وثقته بنفسه ووضعت زعيمه في مصاف القادة, وقد برع نصرالله في هذا الدور بفعل امتلاكه ناصية الخطابة وتقديم نص وأطروحة متكاملة مع كل إطلالة إعلامية له.
تجربة حرب عام 2006 كانت أيضا عنصرا آخر أضيف إلى رصيد الحزب الشعبي, فهو نجح في تظهيرها على أنها انتصار آخر تحقق على الإسرائيليين, على رغم جسامة التضحيات والخسائر حينها.
بعدها, أغرت التطورات التي عصفت بالمنطقة الحزب على تخطي حدود لبنان والانتشار في الإقليم, جاعلا من نفسه قطب المحور وذراعه الضاربة. وظل الوضع على هذا المنوال إلى أن أتت عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حليفته حركة "حماس".
ووفق العارفين بأحوال نصرالله, فقد وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ ومكلف: أن يترك حماس وحيدة معناه سقوط مدوّ لكل تحدياته واستعداداته السابقة التي وردت على لسانه, وأن يشرع في دعمها فإن الأمر مُكلف, خصوصا لجهة القدرة على التسويغ والتبرير, فضلا عن أنه مقتنع ضمنا بأن زمن التحرير الكامل ما زال بعيدا, فاختار "حرب الإسناد", مقرنا ذلك بالإعلان عن أنه لم يُستشر فيها ولم يعلمها سابقا, فبدا كأنه مجبر أو مكره على هذا الفعل.
وسواء كان نصرالله ذهب نتيجة خطأ في الحسابات لمحوره ككل عندما اقتحم المهمة على عجل وأشهر حرب دعم "حماس", أو سوى ذلك, فالثابت أنه وحزبه قد دفعا الثمن الأكبر. فالحزب خسر قائدا استثنائيا وبات لزاما عليه الإتيان بخليفة له, بحيث لا يشعر المعنيون وخصوصا جمهور الحزب بأن ثمة فارقا بين الخلف والسلف, وخصوصا لجهة القدرة على تعويض ما خسره الحزب في مواجهاته الدائرة منذ نحو عام, والحفاظ على المكانة التي بلغها خلال أكثر من أربعة عقود مضت على تأسيسه وانطلاقته.
لا ريب في أن الحزب يدرك تماما أن الأعداء نجحوا دوما في لعبة قطع الرأس وجزّ الأطراف, وهذا ما فعلوه دوما مع الفلسطينيين وخصوصا مع عرفات.
والسؤال الأكبر الذي يدور في أوساط عدة: هل يكون قتل نصرالله مقدمة لإخضاع الحزب لمعادلات القوة الجبارة التي فتكت الفتكة الكبرى بالحزب وبحليفته حركة "حماس" عبر الإتيان بقيادة جديدة تقبل المساومة والحلول السياسية, متخلية عن شعارات المرحلة الماضية تحت عنوان هذا ما قدرنا عليه؟
حتى الآن ثمة رمزان في قيادة الحزب يشار إليهما على أن أحدهما هو الخليفة المؤهل لنصرالله, وهما رئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين ونائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم. وإذا كانت كل التكنهات تشير إلى أن كفة صفي الدين هي الأرجح لكونه يشار إليه منذ زمن على أنه الخليفة المنتظر لابن خالته السيد نصرالله, فكلاهما يعرف أن المهمة إن آلت إليه صعبة وشاقة وعبارة عن تحدّ كبير.
ابراهيم بيرم - النهار