إنّها الحرب بأتمّ معنى الكلمة. تختصر هذه الكلمة التصعيد غير المسبوق الذي لجأت إليه إسرائيل في الساعات الأخيرة ضدّ لبنان, بعد سلسلة من المجازر المتسلسلة وغير المسبوقة التي "مهّدت" ربما للنقطة الصفر, وإن كان الانطباع أنّها كانت تسعى من خلالها لاستفزاز "حزب الله", وبالتالي استدراجه إلى "فخّ" الحرب, بحيث يكون هو المُبادِر إليها, فتظهر هي أمام المجتمع الدولي, كمُدافِعةٍ عن النفس, بلا حول ولا قوة. لكن, مع فشل الخطّة الإسرائيلية بدفع "حزب الله" نحو الحرب, عدّلت "التكتيك" لتطلق نيرانها بشكل جنونيّ وغير مسبوق صباح الإثنين, في سيناريو ذكّر إلى حدّ بعيد بنموذج العدوان الهمجيّ المتواصل على قطاع غزة, لتحصد في يومٍ واحدٍ, بل في ساعاتٍ معدوداتٍ, مئات الشهداء والجرحى, ممّن لا ذنب لهم, سوى وجودهم في مناطق اختار سلاح الجو أن يقصفها عشوائيًا, امتدادًا من الجنوب إلى البقاع, مرورًا بالضاحية الجنوبية لبيروت. وإذا كانت الفاتورة البشرية للعدوان الإسرائيلي المتمادي ثقيلة جدًا, ولا سيما أنّ معظم الشهداء الذين سقطوا على امتداد المناطق اللبنانية هم من المدنيين, ولا سيما النساء والأطفال, فإنّ ما جرى على امتداد الساعات الماضية يطرح علامات استفهام بالجملة عن الأهداف الإسرائيلية من الجريمة المتجدّدة, فهل بهذه الطريقة تحلّ إسرائيل "مأزق الشمال", أم أنّها تفاقمه, وهل يمكن القول إنّ البلاد دخلت أتون الحرب الشاملة والمفصليّة؟!
أهداف إسرائيل المُعلَنة والمُضمَرة
بالحديث عن الأهداف الإسرائيلية من عدوانها المتمادي ضدّ لبنان, يمكن التمييز بين الأهداف المُعلَنة وتلك المُضمَرة, فعلى صعيد ما هو مُعلَن, يتّضح من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين, من المستويين السياسي والعسكري, أنّ تل أبيب تريد إضعاف "حزب الله" وشلّ قدراته, لمنعه من مواصلة ضرباته ضدّ الشمال, بدليل أنّها زعمت أنّ هجماته كلّها كانت موجّهة ضدّ أهداف مرتبطة بالحزب, وتحديدًا بترسانته, التي ادّعت أنّه ينشرها بين أهل الجنوب.
وإذا كان هذا الهدف المُعلَن تدحضه الكثير من الوقائع, من بينها عشوائية القصف, والعدد المهول من المدنيين الشهداء, فإنّ ذلك يقود إلى الحديث عن الأهداف المُضمَرة, وفي مقدّمها "الضغط النفسي" على الحزب من خلال "ضرب" بيئته الحاضنة, وهي العالِمة بمدى حساسيّة الموضوع بالنسبة إليه, علمًا أنّ هذا "التكتيك" سبق أن اعتمدته إسرائيل في غزة أيضًا, حين كانت تستهدف جمهور المقاومة, من باب الضغط عليها لتليين موقفها, لخفض الضرر. لا يتجلّى هذا "التكتيك" فقط من خلال الخسائر البشرية والمادية في صفوف جمهور الحزب, ولكن أيضًا في "الحرب النفسية" التي خاضتها إسرائيل ضدّها, سواء عبر الاتصالات الهاتفية, أو الرسائل النصّية, أو قبل هذا وذاك, من خلال بثّ الذعر والنفوس, فضلاً عن وضع هذا الجمهور أمام خيارٍ أوحد, وهو "الهرب" من آلة الحرب, وبالتالي النزوح, ولعلّ مشاهد الازدحام على طريق الجنوب --بيروت, شكّل هدفًا مضمرًا لإسرائيل في هذا السياق.
هل يحقّق نتنياهو أهدافه؟
خلف هذه الأهداف المُعلَنة والمُضمَرة, يمكن فهم العدوان الإسرائيلي المتمادي ضدّ لبنان, كلّ لبنان, وليس ضدّ "حزب الله" فقط, بوصفه محاولة ضغط على الأخير, من أجل ضرب أكثر من عصفور بحجر, عبر إرغامه على تليين موقفه, وبالتالي الخضوع للشروط الإسرائيلية, عبر التراجع إلى الخلف, وبالتالي السماح لمستوطني الشمال بالعودة إلى منازلهم بأمان, كما يردّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصورة شبه يومية.
إلا أنّ الثابت بحسب ما يقول العارفون, هو أنّ مثل هذا الهدف لا يمكن أن يتحقّق بالطريقة الإسرائيلية, فإذا كان صحيحًا أنّ العدو "يتفوّق" بسلاح الجو الذي يمتلكه, فإنّ الصحيح أيضًا أنّه باستخدامه بهذا الشكل, كسر كلّ الخطوط الحمراء, وتجاوز كلّ قواعد الاشتباك, وبالتالي فإنّ الحزب سيعتبر نفسه "متحرّرًا" من كلّ الضوابط والقيود التي رسمها لنفسه, وقد أثبت أنّه لا يزال قادرًا على الهجوم, خلافًا لما تروّجه الدعاية الإسرائيليّة. وبمعزلٍ عن كلّ شيء, يقول العارفون إنّ الثابت أنّ العدوّ لن يستطيع القضاء على المقاومة مهما وسّع وصعّد من هجماته وضرباته, ولو حاول أن "يفشّ خلقه" عبر المدنيّين, إن جاز التعبير, وبالتالي فإنّه بهذه الطريقة وبهذا التكتيك, لن يحلّ الأزمة التي يخوض الحرب تحت عنوانها, وهي إعادة المستوطنين, بل على العكس من ذلك, سيكون عليه أن يتحمّل هجرة المزيد من المستوطنين, في مناطق أبعد.