قبل توجّهه إلى الأردن في زيارة خاصة رَفَع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي السقف بوجه العسكريين المتقاعدين الذين "طبّوا" على السراي يوم الثلاثاء الماضي ومنعوا مجلس الوزراء من الانعقاد ثمّ "زنّروا" جلسة الأربعاء بحزام ناري وقطعوا طرقات وأجبروا الجيش على الاستنفار وإنزال مئات العسكر إلى الشارع بما في ذلك توفير الحماية لمنزل ميقاتي في بيروت والميناء-طرابلس. في الوقت نفسه كان قائد الجيش العماد جوزف عون يستقبل وفداً من العسكريين المتقاعدين لحصر رقعة الخلاف بين "جناحيهم" المستمرّ منذ نحو سبع سنوات ومحاولة توحيد المطالب والأهمّ إراحة بال نجيب ميقاتي من همّ الشارع.
تزمع الحكومة الدعوة إلى جلسات مفتوحة ومتتالية لدرس الموازنة ولسان حال ميقاتي: "ما حدن بيقدر يوقّفني", لكن مع تخوّف وزاري جدّي من استئناف "هجوم المتقاعدين" إذا سقطت لغة المفاوضات.
أمس دخلت قيادة الجيش على خط أزمة المتقاعدين من خلال اللقاء الذي دعا إليه العماد جوزف عون وضمّ العمداء المتقاعدين بسام ياسين وشامل روكز وأندريه أبو معشر عن "تجمّع العسكريين المتقاعدين" واللواء المتقاعد نقولا مزهر عن "رابطة قدامى القوات المسلّحة", فيما رفض العميد المتقاعد جورج نادر المشاركة في الاجتماع بسبب حدّة الخلاف مع "الرابطة" وقوله كلاماً كبيراً عن المنضوين فيها رافضاً, كما يقول, التراجع عمّا قاله بحقّها بسبب سقفها المتدّني جداً عن مطالب العسكر المتقاعد. حصيلة الاجتماع التوافق المبدئي على توحيد المطالب على أن يتمّ الاجتماع الثلاثاء المقبل في مقرّ التخطيط في وزارة الدفاع بين وفد القيادة ووفد العسكريين المتقاعدين لحسم الحدّ الأدنى الذي لا يمكن التراجع عنه في ما يتعلّق بالرواتب والتعويضات, ثم تعرض الصيغة لاحقاً على الحكومة.
لكن قبل انعقاد لقاء اليرزة أصدر قائد الجيش مذكّرة جديدة منع من خلالها العميد السابق في الجيش مارون خريش من دخول كلّ المراكز والأندية والمقرّات العسكرية بعدما ثبت ضلوعه, برأي القيادة, في أعمال الشغب الأخيرة وإطلاقه شتائم بحقّ القيادة, مع العلم أنّ الأجهزة الأمنيّة أوقفته لبعض الوقت ثمّ أطلقت سراحه, كما أنّ مارون خريش هو عمّ رئيس مكتب قائد الجيش العميد عماد خريش. وسبق لقائد الجيش أن أصدر برقية مماثلة منع من خلالها العميد جورج نادر وعائلته من دخول كلّ الثكنات العسكرية.
دفتر الحساب
يتّهم الإعلام التابع لرئيس الحكومة "قادة الثورة العسكرية", كما وصفهم, "بالميليشيات المقنّعة وأخذ البلد رهينة أهوائهم الشخصية وحنينهم إلى "الإمرة العسكرية", وخروج التحرّك الأخير عن "إطار المطالبة المشروعة بالحقوق إلى فوضى وشغب وفتنة وقلّة تهذيب, لا علاقة لها بالمناقبية العسكرية". وذلك بعدما اتّهم رئيس الحكومة في بيان مساء الأربعاء العسكريين المتقاعدين بتنفيذ انقلاب على الدولة ومجلس الوزراء وفرض الشلل في البلاد, واصفاً تحرّكاتهم بـ "المشبوهة".
دفتر الحساب لم يُقفل بعد بين الحكومة والعسكر المتقاعد وقد تتّجه الأمور إلى مزيد من التصعيد في حال عدم التوافق في ظل تنسيق كامل بين الرئيس ميقاتي وقائد الجيش الذي أحرِج كثيراً في التحرّك الأخير بعدما تمكّن العسكريون المتقاعدون من "هزّ بدن" ميقاتي وتعريض حكومته لمزيد من الضغوط وأخطر أوجهها لغة الشارع, وتكريس التصادم بين العسكر أنفسهم بسبب التعارض في الأجندات.
يحصل ذلك في ظلّ علاقة ممتازة تجمع بين ميقاتي وعون دفعت قائد الجيش إلى تخصيص رئيس الحكومة خلال زيارته وزارة الدفاع في عيد الجيش بلفتة خاصة اعتبر من خلالها رئيس الحكومة "الداعم الأوّل والأساسي للمؤسّسة العسكرية, وهذا أحد أسباب صمود الجيش".
الجميّل: تحرّك سياسيّ
إذاً المعادلة الصدامية أفضت إلى واقع يُقلِق حكومة ميقاتي, خصوصاً أنّ الحكومة ليست بوارد إعطاء "تجمّع المتقاعدين" ما يفوق قدرتها على فعله وبغياب سياسة تصحيحية علمية لسلسلة الرتب والرواتب.
يقول المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة فارس الجميّل لـ "أساس": "استبق العسكريون المتقاعدون جلسات مجلس الوزراء قبل معرفة توجّه الحكومة وأيضاً على الرغم من إعلان رئيس الحكومة أكثر من مرّة أنّ هناك المزيد من التقديمات الاجتماعية المؤقّتة بانتظار إقرار الموازنة. لكنّ ما حصل في يوم التحرّك أوحى بما لا يقبل الشكّ أنّ المسألة أبعد من قصة مطالب محقّة بدليل تسابق الداعين إلى التحرّك إلى الشتيمة وتوجيه الإهانات والتهديد والأخطر توزيع فيديوهات عن أعمال تخريبية تحصل في الشارع, ولم يكن مقبولاً تهجّم هؤلاء على رئيس رابطة قدامى القوى المسلّحة العميد نقولا مزهر وتكسير سيارته بعد معرفتهم بتوجّهه إلى السراي للتفاوض مع ميقاتي". لكنّ العميد مزهر عاد والتقى لاحقاً رئيس الحكومة.
يؤكّد الجميّل أنّ هناك "بحثاً جدّياً لتقديمات إضافية لكلّ القطاع العامّ, ومن ضمنه العسكريون في الخدمة والمتقاعدون بشرط فقط عدم اهتزاز الخزينة. وعند إقرار القانون في مجلس النواب يصار إلى ضمّ ما تقدّم من تقديمات إلى صلب الراتب. فكيف يمكن أن يعطّلوا جلسات حكومية مخصّصة في جزء منها لبتّ هذه التقديمات؟ كلّ ذلك يدفعنا إلى القول إنّ هناك بعداً سياسياً لهذه التحرّكات ولسنا الجهة الصالحة لتحديد هويّة محرّك هذه المجموعات".
لا تهريب للجلسة
ينفي الجميّل "حصول تهريب لجلسة الأربعاء, بل انعقدت ضمن إطارها القانوني بعد الاستماع لتقرير وزير المال حول الموازنة والجلسات التي ستليها قائمة في أيّ وقت بعد إتمام توزيع جدول الأعمال قبل 48 ساعة", مشيراً إلى وجود "محاولة لفهم ما حصل وتحديد الجهة المحرّكة عبر التنسيق بين رئيس الحكومة والوزراء والأجهزة الأمنيّة لأنّ هناك من يريد الاستثمار في السياسة, فهل شلّ عمل الحكومة يخدم البلد؟".
يُذكر أنّ جزءاً من العسكر المتقاعدين كان "استُخدِم" في كانون الأول الماضي من أجل منع انعقاد جلسة مجلس الوزراء التي كانت ستبحث التمديد لقائد الجيش ضمن سيناريو متّفق عليه مسبقاً قضى بالانتقال بعد الظهر إلى مجلس النواب لإقرار التمديد لقادة الأجهزة.
العميد نادر: تحرّكنا مستمرّ إلّا إذا…
من جهته يقول العميد جورج نادر لـ "أساس": "كلّ تحرّك لنا مرتبط بما سيتّفق عليه في اللقاء مع قائد الجيش ومدى تجاوب الحكومة. وإذا لم نلمس جدّية والتزاماً بالأفعال وليس فقط الأقوال فالتحرّك سيستمرّ", مؤكّداً أنّنا "لن نتنازل عن حقّنا بـ 40% ممّا كنّا نتقاضاه قبل الأزمة بموجب قانون ضمن مشروع الموازنة وليس فقط على شكل مساعدة اجتماعية وتنفيعات غير نافعة", قائلاً: "هذا مطلب مؤقّت لنا, وكلّما زادت الإيرادات سنطالب بحقّنا أكثر تحقيقاً للعدالة, ولن نقبل إطلاقاً بأيّ مساعدات جزئية وتدريجية".
ينفي الجميّل "حصول تهريب لجلسة الأربعاء, بل انعقدت ضمن إطارها القانوني بعد الاستماع لتقرير وزير المال حول الموازنة
رابطة "ربطات العنق"!
عن التعارض في التوجّهات بين "التجمّع" والرابطة" يقول نادر: "العسكر المتقاعدون منضوون تحت اسم "تجمّع العسكريين المتقاعدين", فيما "رابطة القوات المسلّحة" لا تمثّل سوى 5% من مجموع العسكر المتقاعدين بما يُشبِه تمثيل محمود عباس. وهي سلبية في أدائها, لا تتحرّك على الأرض ولا تزيح من درب من يريد التحرّك وتفضّل ارتداء ربطات العنق والتصوير, والحكومة تتجاوب مع مطالبها المنخفضة السقف".
يُذكر أنّ يوم الخميس أصدر تجمّع العسكريين المتقاعدين بياناً فنّد فيه مطالبه ومنها "صدور بيان عن رئاسة الحكومة تتعهّد فيه بتعديل جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء, وإدراج بند تصحيح الأجور أوّل بند وعدم مناقشة أيّ بند آخر قبل إقرار الخطّة", كما طالب التجمّع حكومة ميقاتي "بتعميم خطّة تصحيح الأجور التي تكلّف بإعدادها مجلس الخدمة المدنية قبل 48 ساعة من تاريخ انعقاد الجلسة المقبلة".
ملاك عقيل- أساس