في حدثٍ امتزجت فيه مشاعر الأسى بالأمل, واقترنت فيه الأعمال الفنية بالقضايا الإنسانيّة السّامية, أقامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر, عشيّة اليوم العالمي للمفقودين والمخفيين قسراً, المُصادِف في الثلاثين من آب- أغسطس, حدثاً فنياً- ثقافياً بعنوان "وبقيت", وهو العنوان نفسه لأغنيةٍ مصوّرةٍ أطلقتها الفنانة جمال أبو حمد, تخليداً لذكرى المفقودين, وذلك ضمن فعاليات هذا الحدث الذي أقيم في مركز بيروت للفن وشاركت فيه شخصيات ديبلوماسية وثقافية وفنية وإعلامية أرادت أن يشكّل حضورها رسالةَ تضامنٍ قوية مع قضية المفقودين وهم بالآلاف في لبنان ممن لم تعرف عائلاتهم شيئاً عن مصيرهم منذ سنوات الحرب.
" أبي. كلمةٌ لا أعرف منها إلا كيفية لفظها... طفلتُكَ كبُرَت وكَبُر كلُّ شيءٍ بعدَك إلا فرحتي. رحَلَتْ معك ولم تكبُر بعد. فمتى أفرَحُ بلقاءِك يا أبي..." هذا جزءٌ من رسالةٍ عُرضَت ضمن تقريرٍ مصوّرٍ استُهِلّ به لقاء "وبقيت", وهي رسالةٌ كتبتْها ميسا إلى والدها "سعْدو" المفقود منذ سنوات الحرب في لبنان, والموثّقة في كتاب "وقِلْت بكتِبْلَك" الذي يضمُّ مجموعة رسائلَ وقصائد شاركتها عائلات المفقودين مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر, لتروي من خلالها قصصها وتعبّر عن أعمق مشاعرها وآمالها.
بعدها كانت كلمة للناطقة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومسؤولة العلاقات الإعلامية سالي عون قالت فيها: "نحيي منذ سنوات في 30 آب/أغسطس من كل سنة اليوم العالمي للمفقودين, لنؤكّد على التزامنا بهذه القضية ولنطالب بتطبيق أحكام القانون وقد أردنا هذا العام أن يحمل لقاءنا طابعاً ثقافياً-فنياً خاصاً, ليعلو صوت هذه القضية ونحملها معنا في كل لحظة من خلال كلمات وموسيقى ورسالة أغنية "وبْقِيتْ"".
وبالفعل أتت أغنية " وبْقِيتْ " التي تمّ اطلاقها رسمياً خلال هذا الحدث لتشكّل صرخةً مدويّة في قضيّةٍ وَجَبَ أن يعلوَ صوتُها عالياً ليخرقَ صمتَ النسيان والوجع التخاذل. وتقول جمال أبو حمد في الأغنية التي كتبت كلماتها ولحّنتها وأدّتها بصوتها وتولّت بنفسها مهمّة إخراج نسختها المصوّرة:
"كل اللّي قلتُنْ كلمْتَين, شْوَي وراجِع رايح لَوين, سألتَك وتودّعوا العينَيْن, وعَبُكرا صار شهر وسنتين, وبقيت وحدي بتخت لتنين, لَوين رحت وما عدت جيت".
وبتأثّر كبير, تحدّثت أبو حمد التي درست الموسيقى في الكونسرفتوار الوطني اللبناني والتمثيل والإخراج ما بين لبنان والخارج, عن أهمية الفن في إيصال الصوت. وتشاركت مع الحاضرين قصّتها المؤثّرة مع قضية المفقودين, والتي بدأت عندما كانت طفلةً في العاشرة من عمرها ورأت للمرة الأولى خِيَماً كان الأهالي قد نصَبوها في وسط بيروت للاعتصام فيها, ثم واظبت في السنوات اللاحقة على متابعة القضية حتى كتبت الأغنية التي تشكّل حواراً ما بين امرأةٍ وزوجِها المفقود تختصر فيها كل مشاعر الألم والأمل في ظلّ ثقل الغياب والمصير المجهول للشخص المحبوب وهو ما عكستها أبو حمد إخراجياً في النسخة المصوّرة من الأغنية, وذلك بتوليفة بصرية مؤثرة اعتمدت فيها كادراً ثابتاً لامرأة تتغيّر ملامحها كما حالاتها النفسية عبر الزمن ليبقى الثابت الوحيد هو وجعها الذي لا يعرف حدود.
وعلى مسرحٍ احتضن مجموعةَ كراسٍ فارغة كانت الشاهد الصامت على قضيّة يرفض المناضلون في سبيلها أن يقتلَها الصمت, توالت الكلمات المؤكّدة على أهميّة هذا الحراك, وذلك بحضور نخبة من أهل الفن والثقافة في لبنان من بينهم: جورج شلهوب, إلسي فرنيني, كميل سلامة, نوال كامل, برناديت حديب, بديع أبو شقرا, إلسا زغيب وكريستين شويري بالإضافة الى الإعلاميات داليا داغر, كاتيا مندلق وإليسار ندّاف وغيرهم من الشخصيات.
وخلال اللقاء شدّدت رئيسة "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" السيّدة وداد حلواني في كلمتها على أهميّة بقاء قضية المفقودين راسخةً في الضمير والوجدان وقالت: "نحن نعتبر أنَّ كل يوم هو يوم المفقود. المعاناةُ بدأت ولم تنتهِ بعد. أصبحتُ في الثالثة والسبعين من عمري ولا زلتُ أبحثُ عن زوجي. لن نتوقّفَ عن المطالبةِ بحقنا في معرفة مصير أحبائنا... ولا يمكنُ أن تكونَ حياةُ الإنسانِ عبارةً عن انتظارٍ مؤلمٍ لا يعرفُ نهايةً".
ويصادف هذا العام ذكرى مرور ست سنوات على إقرار البرلمان اللبناني للقانون ١٠٥ حول المفقودين والمخفيين قسرًا وقد وُزع كتيّباً عنه خلال الاحتفال, لَحَظَ تشكيل هيئةٍ وطنيةٍ مُختصَّةٍ.
كما كانت كلمة لنائب رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً, الدكتور زياد عاشور أكّد فيها على ضرورة المُضي قُدماً في تطبيق القوانين لئلاّ تبقى حبراً على ورق ولضمان حق الأهالي في معرفة مصير أحبائهم من المفقودين.
أما رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان, السيّدة سيمون كاسابيانكا أشليمان فقالت في كلمةٍ أمام الحضور: " لقد مرت سنواتٌ, ومع ذلك تظل اللجنة الدولية ملتزمةً بالبحثِ عن المفقودين وتوضيح مصيرهم. لقد اجتمعنا في هذا اليوم في فعاليةٍ فنيةٍ-ثقافيةٍ لنؤكّدَ من جديد على الأهمية الوطنية لهذه القضية التي تهمُّنا جميعاً"
واختتمت كلمتها قائلةً: "لسنواتٍ عديدةٍ, عاشت العائلات بالأمل والألم, في انتظارِ الإجابات التي قد تجلبُ الصفاءَ الذي لطالما سَعوا إليه. وفي ضوء هذا النضال المستمر, تأملُ اللجنة الدولية أن يحصلوا أخيرًا على الإجابات التي طال انتظارها والتي يستحقونها".