بالرغم ان كل القراءات لخطاب رئيس المجلس نبيه بري في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر, اجمعت على انه لم يحمل جديداً يخرق جمود المشهد الداخلي المعلق على الجبهة الجنوبية, او يفتح ثغرة في جدار الاستحقاق الرئاسي المأزوم, خصوصاً ان كلامه عن مبادرته الحوارية الرئاسية شكلت تكراراً او على الاقل, تكريساً لطرحه الاول وإصراراً عليه, إلا ان التمعن في المواقف التي اطلقها بري يكشف عن مجموعة من الرسائل التي, ان تم تلقفها, يمكن ان تحقق الخرق المطلوب, من دون ان يعني ذلك ان النتائج المرتقبة ستنال رضى المعترضين!
اولى واهم الرسائل تمثل في فك مسار الملفات الداخلية, ان في الشأن الرئاسي او في الشأن الحكومي, عن مسار جبهة الإسناد في الجنوب, بعد ان كانت البلاد معلقة على مدى الأشهر ال ١١ على هذا المسار. وهذا يعكس في رأي مراقبين, وعياً متأخراً لدى الفريق الذي يدور في فلكه رئيس المجلس, ولا سيما على صعيد الثنائية الشيعية, لمخاطر الاستمرار في التعويل على نتائج حرب الإسناد التي كان يعتقد الحزب عندما خاضها, انها لن تطول كثيراً, ولن تحمّله هذا الكم الكبير من الخسائر, واذ هي تحولت إلى حرب استنزاف, لم تعد نتائجها محسومة, في ظل استمرار سياسة البطش الإسرائيلي, برعاية ومباركة أميركية لم تعد خافية على احد, بقطع النظر عمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية مطلع تشرين الثاني المقبل. ذلك ان الشهرين الفاصلين عن ذلك الموعد, يشكلان المهلة التي طلبها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتحقيق أهدافه العدوانية.
هذه الرسالة تقود المراقبين المحليين إلى تفهم الحيثيات التي دفعت رئيس المجلس لاعادة تحريك مبادرته الحوارية, منطلقاً مما سمعه ولا يزال من السفراء والموفدين الدوليين بأن الحل للأزمة السياسية في لبنان لا يمكن ان تبدأ إلا من اللبنانيين انفسهم. وهو قد تلمس اخيراً مناخاً سعودياً برغبة في تحريك الجمود, تعزز اكثر بزيارة السفير السعودي وليد البخاري الذي جاءه مستطلعاً قبيل مغادرته إلى المملكة. تذهب عين بري كذلك إلى الزيارة المرتقبة للموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان إلى الرياض والتي يحتمل ان تستكمل بمحطة لبنانية للديبلوماسي الفرنسي في بيروت.
لا يرى بري خياراً آخر متاحاً في المرحلة العصيبة الراهنة إلا العودة إلى الحوار, مقدمة إلى فتح ابواب المجلس امام جلسات الانتخاب.
هو مطمئن لحيازته على ٨٦ صوتاً من اصوات النواب, الذين اكدوا له مشاركتهم, بما يضمن له نجاح الطاولة الحوارية, لكنه يرفض المبادرة إلى الدعوة اليها, ويتريث في انتظار تغير جواب احد المدعوين الاساسيين, رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي لا يزال على رفضه. ولبري اسبابه في هذا الانتظار, اهمها انه يرفض تغييب اكبر كتلة نيابية مسيحية عموماً ومارونية على وجه الخصوص. يؤمن بري ان لا حوار من دون هذا المكون الاساسي, وهو لن يقدم على اي خطوة من هذا القبيل, لأنه يحاذر الانقسام والتعطيل الذي سيواجهه اي رئيس لا ينبثق عن توافق وإجماع.
عليه, يبدو السؤال المبرر, اي آلية سيعتمدها بري, القابض على مفاتيح المجلس؟ وهل من تطورات خارجية دفعته إلى اعادة فتح النقاش الداخلي حول الرئاسة بعد جمود فرضته حرب الإسناد وربط الساحة اللبنانية بالساحة الفلسطينية؟
لا تملك اوساط بري جواباً واضحاً على هذا السؤال, إلا انها ترى ان رئيس المجلس مدعو دائماً إلى التحرك والمبادرة لكسر الجمود, انطلاقاً من حرصه على الوحدة الداخلية, كما عبّر عن ذلك في خطابه الأخير, عندما قال ان الوحدة الداخلية هي افضل وجوه الحرب مع إسرائيل. وتقول ان الآلية الدستورية قائمة ويمكن اللجوء اليها في اي لحظة, لا سيما ان النصاب الدستوري متوافر, ولكن الميثاقية التي يتمسك بها رئيس المجلس لا تزال ناقصة وتفتقد احد ابرز مكوناتها.
إلى متى سيطول انتظار اكتمال عقد الحوار؟ لا تجد هذه الأوساط جواباً مقنعاً, ما يدفع إلى الاعتقاد بأن اعادة طرح ملف الرئاسة في هذا التوقيت, مقروناً بفك ارتباطه بحرب غزة وجبهة الجنوب, وبتأكيد على توافر نصاب الانتخاب, يعزز الاستنتاج بأن الثنائي قد يكون بلغ مرحلة الاقتناع بأن الظرف المتوافر اليوم قد لا يبقى متوافراً غداً لانتخاب الرئيس الذي يريده, سيما وان مقايضة الرئاسة الاولى برئاسة الحكومة المطروحة في اي نقاش رئاسي تبدو الخيار الوحيد المتوافر اليوم امام اي مبادرة داخلية كانت او خارجية!
سابين عويس - النهار