فصل جديد يضاف إلى مسيرة صمود وإبداع لبنانيّين وسط كمّ هائل من التحديات. وهذه بشرى سارّة إلى مزارعي لبنان والدول العربية: فمن قلب سهل البقاع, يطلّ اختراع جديد. هي آلة "Level Clear" التي تقوم بفحص تغيُّر درجة تعكُّر المياه (Turbidity) المستخرجة من الآبار المستخدمة في ريّ المزروعات. وحين تبلغ درجة التعكّر الحدّ الذي يؤدّي إلى سدّ أنابيب الريّ, تُصدر الآلة أمراً للمضخّة داخل البئر للتوقف عن العمل لحين عودة الدرجة المذكورة إلى معدّلها الطبيعي. الاختراع هو الأول من نوعه, لبنانياً وعالمياً. قصة نجاح يرويها لنا البروفيسور ناجي كعدي في خطوة جديدة تُسجَّل في مسيرة العلمية.
من الفكرة إلى التنفيذ
في حديث لجريدة "الحرّة" يخبرنا كعدي عن ولادة الفكرة: "حصل ذلك منذ سنة تقريباً حين كنت أتحقّق من مستوى المياه الجوفية في أحد الآبار المستخدمة لريّ بساتين العنب. عندها, أعلمني صاحب البستان عن معاناته من انسداد الأنابيب حين تتعكّر المياه, ما يتسبّب بعرقلة عملية الريّ. ومذّاك, بدأتُ رحلة البحث عن حلّ لهذه المشكلة تسهيلاً لعمل المزارعين وتفادياً لخسائر مادية يمكن أن يتكبدوها نتيجة لذلك".
استغرق إنضاج فكرة المشروع حوالى ستة أشهر لتتبلور نهائياً وتبدأ مرحلة التنفيذ. "حين قرّرت المضيّ في المشروع, كنت مصرّاً على أن يكون التمويل ذاتياً وبإنتاج خاص بأكمله. وبعد عمليات مستمرّة من البحث الدائم, تعرّفت إلى تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تقوم بصبّ القوالب البلاستيكية. وقد ساعدتني دورات أتممتها سابقاً لتعلُّم برنامج "الأوتوكاد" في تصميم العلبة التي تحوي الآلة. كما قمت بشراء جهاز الاستشعار (Sensor) وشاشة بحجم 3 إنش لإظهار النتائج بالأرقام من خلال الرسومات البيانية. كما لا بدّ أن أشير إلى الدور الذي لعبه الذكاء الاصطناعي في مساعدتي على برمجة الآلة, لا سيّما من خلال التوجيه وعرض الاقتراحات لتصحيح الأخطاء حيث كنت أختار ما يتلاءم منها مع سير العمل".
مثابرة رغم التحديات
نسأل كعدي عن المعوّقات التي واجهته خلال رحلته, فيختصرها بثلاثة: إيجاد طريقة فعّالة وآمنة لاختراع آلة كهربائية تُستخدم في المياه؛ تعبئة المياه في الخزانات بطريقة تسمح بقياس درجة التعكّر بشكل دقيق؛ تبسيط عمل الآلة وطريقة الإخراج على الشاشة ليتمكّن المزارع من استخدامها بسهولة وبشكل صحيح.
ويتحدّث كعدي عن لحظات صعبة كان يمرّ بها لدى مواجهة عقبات لم تكن في الحسبان. "لقد اعتدت على هذه الحالات لكنني لم أكن أسمح لها بإحباطي, لا بل كانت تمدّني بالفرح والقوة ليقيني بأنني سأعود وأكمل المسار. هناك حدس داخلي صعب التفسير كان يحثّني على الانتفاض والنهوض مستمدّاً القوة والاندفاع والإيمان".
لحظات عاشها كعدي وحيداً في غرفة عمله المعزولة, إذ لم يُظهر لمحيطه سوى الإصرار على إنجاح العمل. عائلته والمقرّبون واظبوا على دعمه رغم حذرهم من احتمال فشل المشروع وعدم القدرة على تسويق الآلة. "في اللحظة التي أنجزت تصنيعها, وقفت لثوان أتأمّلها بصمت, واسترجعت كافة المراحل والصعوبات. لحظة النجاح أنستني عناء عام كامل".
إلى التسويق در
الآلة خضعت لمرحلة الاختبار الأساسية وباتت اليوم جاهزة للاستخدام من قِبَل المزارعين. فكلّ ما يتطلّبه الأمر تنصيبها ومتابعة النتائج على الشاشة. ويرى كعدي أن مراحل لاحقة من التطوير ستَلي تسويق الآلة تباعاً, وهي تشمل قياس متغيّرات أخرى في المياه كمستوى النيترات, على سبيل المثال. "لقد تخطّيت المرحلة الأصعب ووضعت حجر الأساس. أصبحت الآلة اليوم حقيقة ولم تعد مجرّد فكرة. أطمح للتأسيس لمشروع أكبر وأوسع. فاللبناني يتمتّع بحسّ إبداعي مميّز كما بمهارات وكفاءات عالية تخوّله المنافسة العالمية".
"الاجتهاد هو القدرة على تحويل الخيال إلى واقع". بهذا الإصرار والعناد يختم كعدي حديثه. فعلاً, لقد علّمتنا التجارب أن خلق شيء من اللاشيء ليس مستحيلاً. وعن لبنان النجاح سنبقى نتكلّم.
كارين عبد النور_ جريدة الحرة