كتبت نغم ربيع في "المدن":
"بدي فل من بيروت" تردد لونا, الطفلة البيروتية ذات الثماني سنوات, لأهلها, بنبرة قلق.
ولدت لونا قبل أن تتوالى الأزمات على لبنان بثلاث سنوات فقط. دخلت المدرسة في العام 2019, لكنها لم تكن تعلم أن حياتها الدراسية والاجتماعية ستتغير بشكل جذري. فمع اجتياح جائحة كورونا للعالم, أُجبرت على متابعة دروسها من المنزل عبر الإنترنت, محاطة بإجراءات الوقاية من كمامات وتباعد اجتماعي, مما أثر على مفهوم الدراسة والانخراط الاجتماعي لديها.
ثم جاء العام 2020, وهو عام ترك بصماته العميقة في ذاكرتها, حين سمعت صوت انفجار مرفأ بيروت المدمر, ورأت بعينيها الأبنية المحطمة على الطرقات.
لم تتوقف الأزمات التي عاشتها لونا هنا, ففي العام 2023, شعرت بالزلزال الذي هزّ سوريا ووصلت ارتداداته إلى لبنان. الهزات المتكررة أرعبتها, ودفع الخوف أهلها للفرار معها إلى الشوارع أكثر من مرة, وهي تحمل حقيبتها الصغيرة.
واليوم, في العام 2024, بدأت لونا تعيش تحت وطأة تهديد جديد, الحرب, وجدارات الصوت المتكررة. جدارات تجعل حتى الكبار يرتعدون, فكيف بتأثيرها على الأطفال الذين لم يعرفوا الاستقرار منذ ولدوا؟
حال لونا, كحال آلاف الاطفال الذين, منذ بداية وعيهم, اغرقتهم الأحداث بدوامة من القلق والخوف والصدمات المتتالية.
تقول ديانا, والدة لونا, إن ابنتها تعيش في حالة خوف دائم, وتسأل باستمرار: "هل ستتوقف الأصوات أم ستستمر؟" وتؤكد لـ "المدن" أن: "تكاثر الأزمات جعلت ابنتي تعيش في قلق مستمر, لدرجة أنها تخشى حتى من صوت إغلاق الباب بقوة وتطلب دائما التوجه إلى مكان آخر لا تسمع فيه أصوات."
تتابع: "نحن نحاول دائمًا طمأنتها, وأشرح لها الأمور بطريقة تتناسب مع عمرها, لكنني أعتقد أنه من الصعب التخلص من آثار هذه الأزمات. فنحن جميعًا نعيش في حالة قلق, وهذا ينتقل من دون انتباه إلى الأطفال الذين بدأوا يفكرون مثلنا, رغم أن ذلك ليس مناسبًا لأعمارهم ولا ينبغي أن يحملوا هذا العبء."
في السياق نفسه, يتحدث محمد, والد لارينا البالغة من العمر 4 سنوات, والتي تعيش في الضاحية الجنوبية. "ولدت ابنتي في خضم الأزمة الاقتصادية التي كانت تعصف بالبلاد, ورغم ذلك, حاولنا بكل جهدنا تلبية جميع احتياجاتها, رغم أنها لم تكن تشعر بثقل تلك الأزمة.
اليوم, ومع تصاعد الأحداث في لبنان واندلاع الحرب, لم يعد من الممكن إخفاء الحقيقة عنها. أصبحت تطرح الكثير من الأسئلة حول الحرب والأصوات التي تسمعها, ونحن نحاول شرح الأمور لها بطريقة تتناسب مع فهمها. بدأت بالفعل تتعود على أصوات الجدارات, لكن مع استشهاد أحد الأشخاص الذين تعرفهم جيداً, بدأت ابنتي تشعر بالقلق من احتمال أن يصيبنا ما أصاب ذلك الرجل. نحاول التعامل مع هذا الواقع بحذر شديد, فنخبرها بما يجب أن تعرفه, وبالطريقة المناسبة لتجنب زيادة القلق لديها". ويعتبر محمد أن "فكرة الاستعانة باختصاصيين نفسيين مطروحة".
تكثر التساؤلات حول التأثيرات النفسية لهذه الأزمات المتلاحقة على صحة الأطفال النفسية والاجتماعية. وتوضح المعالجة النفسية للأطفال والاختصاصية في التوجيه التربوي رهام منذر, في حديثها لـ "المدن" أن "التأثيرات النفسية للأحداث التي مرّ بها الأطفال في لبنان لم تُدرس بشكل كامل بعد. تقول: "نحن ننتظر لنرى وندرس تداعيات هذه الأزمات على الأطفال, لأن مثل هذه الأحداث المتتالية لم تحصل سابقاً بهذه الكثافة وفي فترة زمنية قصيرة, وبالتالي لا توجد دراسات عالمية سابقة يمكن الاعتماد عليها. نحن ننتظر هذا الجيل لنتعلم منه ونعلم عنه."
تضيف: "كشعب لبناني, مررنا بأحداث متلاحقة, من الثورة إلى جائحة كورونا, وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية واحتمالات الحرب الحالية. كلما كبر الأطفال, نلاحظ تغيرات مختلفة في سلوكهم وتأثرهم بهذه الأزمات. على سبيل المثال, الهجرة التي فرضتها الأزمة الاقتصادية أثرت على الأطفال من ناحية الانفصال عن بيئتهم الاجتماعية. أما خلال جائحة كورونا, فقد لاحظنا تأخرًا في النمو الاجتماعي لدى الأطفال بسبب عدم تفاعلهم مع أقرانهم."
وتشير إلى أن هناك "زيادة في اضطرابات القلق بين الأطفال والمراهقين في الفترة الأخيرة. وتربط ذلك بقلق الأهل المستمر نتيجة الظروف الاقتصادية, وجائحة كورونا, وانفجار مرفأ بيروت, وغيرها من الأزمات. وتقول "الأطفال يرون أهاليهم قلقين, فباتوا يعتبرون أن القلق هو الأمر الطبيعي. ولا يمكن لوم الأهل على ذلك, فالظروف التي مروا بها ليست سهلة ولم تكن طبيعية لتسمح لهم بتمالك أعصابهم وإدارة مشاعرهم وقلقهم."
لم يسبق لجيل في لبنان أن اختبر الحياة من دون سلسلة من الأزمات المتتالية, من حروب وصراعات إلى انهيارات اقتصادية وأزمات سياسية, مما يترك آثارًا عميقة في تكوين شخصية أبنائه. واليوم, يواجه الجيل الحالي تحديات مشابهة, وربما أكثر تعقيدًا, في ظل الظروف الراهنة.
ورغم محاولات الأهل لتأمين مستقبل أفضل لأبنائهم, يبدو أن ما يتم توريثه بشكل غير مقصود هو تراكمات من القلق والتروما والخوف. هذه الدائرة المفرغة من الأزمات تنقل الصدمات النفسية من جيل إلى آخر مع "إضافات" عليها, مما يفرض تحديًا على المجتمع بأكمله للعمل على كسر هذا النمط وتقديم الدعم اللازم لبناء مستقبل مختلف, أكثر استقرارًا وأملًا للأطفال في لبنان.