حين يقول كبير علماء القرن العشرين, ألبرت أينشتاين, "ليس لدي مواهب خاصة, أنا فقط فضولي بشغف", علينا التوقّف مليّاً عند كلامه. صحيح أن تعريف الفضول يُختصر بوصفه دافع الإنسان لسدّ الفجوة بين ما يعرفه وما غاب عنه حيال موضوع ما. لكن الفجوة تلك – وآلية سدّها – تخفي خلفها وحولها الكثير ممّا يثير الدهشة والحذر في آن.
الفضول ليس واحداً بطبيعة الحال. هناك المعرفي الذي يتعلّق برغبة الفرد في اكتساب معلومات, حقائق أو مفاهيم جديدة. بينما يصف الاجتماعي الانبهار بكيفية تفكير الآخرين وتصرّفاتهم ومشاعرهم. أما الإدراكي, فيدفع بأصحابه لتضخيم المعلومات الحسية المتلقّاة. ومناسبة التطرّق إليه هو اكتشاف حديث بالغ الأهمية لباحثين من جامعة "كولومبيا" الأميريكة.
لطالما ظنّ العلماء أن من شأن كشف منبع الفضول المساعدة في فهم كيفية تفاعُل البشر مع محيطهم. لكن الفريق البحثي تمكّن من تحديد المنطقة الدماغية التي ينشأ فيها الفضول, وفق بحث نشرته الشهر الماضي مجلة "Neuroscience". وهي المرة الأولى التي يُشبَك الشعور الذاتي بالفضول حيال معلومات معيّنة بآلية تمثيل الدماغ للأخيرة, حسبما لفت الباحثون.
جرى عرْض صُوَر على 32 مشاركاً أبرزت أشياء وحيوانات مألوفة لكن مشوّهة بدرجات متفاوتة. وطُلب من المشاركين تقييم ثقتهم وفضولهم بشأن تحديد موضوع كل منها. وبالاستعانة بفحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي, رُصد نشاط ملحوظ في مناطق دماغية ثلاث: القشرة القذالية الصدغية (المتّصلة بالرؤية والتعرّف على الأشياء)؛ القشرة الجبهية الأمامية البطنية (المرتبطة بتصوّرات القيمة والثقة), والقشرة الحزامية الأمامية (المعنية بجمع المعلومات).
بدا أن القشرة الجبهية الأمامية البطنية تعمل كجسر عصبي بين مستويات اليقين التي سجّلتها القشرة القذالية الصدغية, والمشاعر الذاتية للفضول. فكلّما تراجعت ثقة المشاركين في محتوى صورة ما, زاد فضولهم بشأنها. وسلّطت النتائج, برأي الفريق, الضوء على كيفية تحويل المدخلات الإدراكية من خلال التمثيلات العصبية المتعاقبة في معرض إثارة الفضول – بما لذلك من انعكاسات علاجية محتملة.
بيد أن أهمية البحث ترتبط أيضاً بكون الفضول محرّكاً عميق الجذور للتنوّع البيولوجي, كما أشار الباحثون. وفي هذا الإطار, أثبت علماء في معهد "لايبنتز" لعِلم الأعصاب في ألمانيا, في كانون الثاني/يناير الماضي, وجود دائرة عصبية طال الاشتباه بوجودها بين منطقتين دماغيّتين رئيستين. والحال أن التوازن الديناميكي بين المنطقتين إنما يحدّد ما إذا كانت اليد الطولى للخوف ممّا هو غير مألوف أو للانجذاب إليه.
ربط بعض المفكّرين القدماء تطوُّر الفضول غرائزياً بمساعدتنا على التكيّف الاستكشافي مع البيئات الجديدة. في حين تعزو نظريات أخرى خشيتنا من البيئات الجديدة للتوجّس من أخطار محتملة قد تنشأ عنها. لذا, يُفترض نشوء وضعيات تثير الفضول والخوف معاً؛ فأحياناً, حيث يتغلّب الأوّل على الثاني, قد يشكّل الثاني جزءاً من عملية إثارة الأول.
بالعودة إلى الاكتشاف الألماني, المنشور في مجلة "Neuroscience", فقد ركّز دماغياً على التفاعل بين الحاجز الإنسي (حيث التفاعل بين العواطف والذاكرة والوظائف الفيزيولوجية غير الطوعية) والمنطقة التغميطية البطنية (ذات الدور الحاسم بما خصّ عاملَي المكافأة والدافع). وهو تفاعُل يدفع بالكائن الحيّ لاستكشاف البيئة المحيطة, حتى عند انتفاء الحاجة لذلك ورغم عدم السعي لمكافآت فورية.
بواسطة تطبيق أساليب البصريات الوراثية, التي تتحكّم بخلايا الدماغ الحية, لاحظ الفريق طبيعة عمل الخلايا العصبية للفئران على تحفيز الفضول كما تثبيطه عندما تكون غير نشطة. فهي أظهرت اهتماماً سلوكياً متزايداً بالبيئات المجهولة التي قد تتسبّب بالخوف. وهذا استدعى السؤال حول انسحاب الأمر على البشر ومجتمعاتهم, كون العلماء فتحوا كوّة في جدار إمكانية علاج الأمراض النفسية التي تحدّ من قدرتنا ودوافعنا للبحث عن كلّ جديد.
نبتعد قليلاً عن موطن الفضول دماغياً لنتناول العلاقة بين هذه السمة من سمات الذكاء البشري والصبر. فالأوّل يرفع بشكل متناقض من منسوب الثاني في معرض بحثنا المستدام عن إجابات. إلأ أنه, توازياً, يجعلنا أكثر حرصاً على كشف الإجابات, بحسب دراسة لجامعة "ديوك" الأميركية, نُشرت في مجلة "Proceedings of the National Academy of Sciences" صيف العام الماضي.
ركن الباحثون إلى مقاطع فيديو الطبخ القصيرة المحمَّلة على منصات التواصل الاجتماعي لقدرتها على تطوير سياقات السرد والتشويق. وأعقبوا ذلك بإنتاج سلسلة مقاطع فيديو لرسم الخطوط مدّتها 30 ثانية, صُمّمت (أسوة بمقاطع الطبخ) لبلوغ نهايات سهلة التوقّع. ثم عرضوا 25 مقطعاً قصيراً على نحو 2000 شخص بالغ. وطُلب من المشاركين – المزوّدين بالقدرة على حرق المراحل بواسطة زرّ "مفسد الأحداث" – تحديد مستوى فضولهم, وتوصيف شعورهم, وتخمين الشكل النهائي للرسم.
فوجئ الباحثون بحرص الفضوليين على مواصلة المشاهدة لحين اكتمال الرسومات. أما الأقلّ فضولاً, فكانوا ميّالين لتلقّي إجابات فورية. وتبيّن أن الفضول لم يحفّز الحصول على إجابات فحسب, بل زاد من متعة المتابعة نفسها. كما أنه أثار شعور المشتركين بالبهجة, ما فسّر استمرارهم الانتقائي في المشاهدة.
اقترح الفريق أن إثارة الفضول قد تعزّز الدافع لدى الطلاب لتحسين مستوى تعلّمهم ورفع منسوب المثابرة لديهم. وهي نتائج تطابقت مع دراسة سبقتها بأشهر للجامعة ذاتها – ونُشرت في نفس المجلة – لناحية دور التحوّل من عقلية عالية الضغط إلى أخرى أكثر فضولاً في المساعدة على تحسين التعلّم والذاكرة طويلة المدى. جاء ذلك عقب الطلب من 420 مشاركاً التظاهر ليوم واحد بأنهم لصوص محترفون.
كان على المشاركين, من خلال لعبة كمبيوتر, استكشاف متحف فني افتراضي تحتوي غرفه على لوحات مختلفة. ومقارنة بمن تخيّلوا تنفيذ السرقة آنياً, بدا الذين تلبّسوا شخصية اللص المستكشِف للمكان (استعداداً لسرقة مستقبلية) أفضل في تذكّر اللوحات. ووفق الدراسة, تمتّع الفضوليون بذاكرة أفضل في اليوم التالي للتجربة, على صعيد التعرّف على اللوحات وتذكّر ثمنها.
شدّد الباحثون على أن الاختلاف في الاستراتيجيات ونتائجها لا يعني بالضرورة أفضلية إحداها على الأخرى. فلحلّ مشكلة ملحّة قصيرة المدى, مثلاً, قد يشكّل اعتماد وضعية الطوارئ والضغط العالي خياراً أفضل. أما بإزاء تعزيز الذاكرة, فقد يؤدّي إجهاد الفرد إلى خواتيم أقلّ فعالية. وهذا يفتح باباً موازياً على ارتباط الفضول بالنجاح الأكاديمي, بغضّ النظر عن معدّل ذكاء صاحبه.
تلفت الأبحاث إلى أن الدماغ الفضولي – إذ تتبدّل كيمياؤه – يتحوّل أداةً نشطة لجمع المعلومات. وبكلام آخر, عندما يثار فضولنا, تصبح الحقائق التي نتمحّصها أكثر ترميزاً ويسراً في الوصول اللاحق إليها. هذا ما خلصت إليه دراسة سنة 2014 لجامعة "كاليفورنيا – ديفيس" الأميركية. يومها, طلب باحثون إلى المشاركين تقييم فضولهم بشأن معرفة إجابات على سلسلة أسئلة, ليتمّ اختبار تذكّرهم للحقائق بعد انقضاء ساعة.
بدا عتاة الفضوليين بشأن مسألة ما أكثر عرضة, بواقع الثلث تقريباً, لتذكّرها. وتزامن ذلك مع نشاط متزايد في مناطق الدماغ الأوسط التي تطلق الناقل العصبي, الدوبامين. وحيث أن الأخير يرتبط عادة بعامل المكافأة معزّزاً تكوين اتصالات عصبية جديدة, تُرجمت النتائج كما لو أن الشعور بالفضول يحثّ الدماغ على: استيعاب المعلومات الجديدة والمهمة, مولّداً ذاكرة أكثر استقراراً, أوّلاً؛ وإنعاش ذاكرة المعلومات العرضية, غير المتّصلة مباشرة بالمسألة الأساسية, ثانياً.
جيّد. لكن للمسألة جانبها المظلم أيضاً. فدافع البحث عن أشكال معيّنة من المعرفة, وإن كان محفوفاً بالمخاطر, قد يخلّف نتائج وخيمة. والفضول هنا ليس "المتّهم" الوحيد, للأمانة, إذ لدماغنا حكاياته مع ارتكاب الأخطاء. فبحسب عالِم الأعصاب الإدراكي الفرنسي, فالنتين ويارت, تتأتى الاختيارات الاستكشافية عن أخطاء عشوائية في حسابات الدماغ, وليس كسمة مميّزة للفضول البشري حصراً, كما أوردت مجلة "Nature Neuroscience" سنة 2019.
في حين يجهد الدماغ لتقليل الأخطاء عند الضرورة, إلّا أنه يسمح بوقوعها عندما تكون ذات تبعات محدودة. فمن خلال تحليل سلوك لاعبي ماكينات القمار إبان الاختيار بين إجراءين مرتبطين بمكافآت غير مؤكّدة, وجد الفريق أن أكثر من نصف الخيارات الاستكشافية لم تكن مدفوعة بالفضول بل ناجمة عن أخطاء. وقد لاحظوا أن اتّخاذ الخيارات تلك وارتكاب الأخطاء إنما ينشّطان المناطق الدماغية عينها.
هي, إذاً, رقصة "شغفٍ" تدور رحاها بين الفضول والعشوائية داخل أدمغتنا. لنا بالطبع أن نحلم, كما جاء على لسان تود كاشدان, عالِم النفس الأميركي, بأن يجعل الفضول الناس أكثر انفتاحاً على آراء الآخرين, على اختلافها, تجنّباً لتداعيات التحيّز التأكيدي والتفكير الجماعي. لكن لا بدّ كذلك من تفادي كمائنه بتعريفه "شهوة العقل" من قِبَل الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز. فالشهوات – عشوائية أكانت أم ممنهجة – قد تكون قاتلة أحياناً.
روني عبد النور_ الحرة