كتب روني عبد النور_
قصص نجاح الاستثمار بالعملات المشفّرة تأتينا من كلّ حدب وصوب. ولعلّ إحدى أبرزها حكاية "عائلة بيتكوين" الهولندية. تلك العائلة المكوّنة من خمسة أفراد والتي صفّت أصولها سنة 2017 للاستثمار بعملة "بيتكوين" (يوم كان سعرها 900 دولار, وهي تتخطى اليوم 67 ألف دولار). مسار بدأ باتّخاذ العائلة لشاحنة كمسكن والتجوال في 40 دولة مختلفة, وانقلب استقراراً في البرتغال, جنة "بيتكوين" الضريبية. في المقابل, نسمع عن انهيارات "مشفّرة" كارثية لا تبقي ولا تذر. فما قصّتنا مع "جنة" العملات تلك و"جحيمها"؟
نعود إلى السؤال بعد قليل. لكن نتذكّر بداية أن النقد شكّل شرياناً حيوياً للبشر لأكثر من 3000 عام. غير أن التحوّل المطّرد باتجاه التعاملات الإلكترونية لا يحدّه حدّ. لا بل تدفع بنا أدوات الدفع غير النقدي للإسراف حتى في الإنفاق, كما ذهبت دراسة نُشرت في مجلة "Journal of Retailing" في أيار/مايو الماضي.
فقد أجرى فريق من جامعتَي "أديلايد" و"ملبورن" الأستراليتين تحليلاً تلوياً لـ71 بحثاً سابقاً للنظر في عادات الإنفاق في 17 دولة مختلفة. وهذه كانت الخلاصة: اللجوء إلى تطبيقات الدفع على الهواتف الذكية واستخدام بطاقات الائتمان يجعلان المرء أقلّ ضبطاً للنفس على صعيد مراقبة ميزانيّته ومقدار إنفاقه.
واضعو الدراسة أعلنوا عن رغبتهم في توسيع نطاق البحث ليشمل أحدث اتجاهات الإنفاق وتقنيات الدفع. وهذا يعيدنا إلى حيث بدأنا: العملات المشفّرة. ذلك النظام الاقتصادي – اللامركزي الذي يجتاح العالَم قائماً على العمليات الافتراضية؛ التداول المجهول الخالي من الوسطاء؛ والأسواق غير المنظّمة. فوائده تطال زيادة منسوب الأمان والشفافية وانخفاض رسوم المعاملات مقارنة بالأنظمة المالية التقليدية. لكن مخاطره أوّلها تقلّب الأسعار وليس آخرها "الفلتان" التنظيمي.
شكّل إطلاق "بيتكوين" عام 2009 عاملاً جاذباً للاستثمارات. وبينما يرى البعض في ذلك طريقة ثورية لتخزين ونقل القيمة, يشبّهه بعض آخر بفقّاعة مضاربة محكومة بالاندثار. لكن بمعزل عن هذا الرأي أو ذاك, فقيمة رأس المال السوقي العالمي للعملات المشفّرة تناهز 2.5 تريليون دولار. وبالأرقام أيضاً, فقد تمّ إنجاز قرابة مليار معاملة "بيتكوين" منذ عام 2009, في حين قامت شبكة "إيثريوم" بمعالجة أكثر من مليون معاملة (مالية وغير مالية) في المتوسط يومياً منذ عام 2019. فما سرّ الانجذاب هذا؟
يربط الخبراء سايكولوجيا الاستثمار بالعملات المشفّرة بثلاثي الخوف من تفويت أرباح محتملة؛ الخوف من خسارة أموال معيّنة؛ والجشع. وهي عوامل قد تدفع المستثمرين إلى مجموعة سلوكيات, أبرزها: اتّخاذ قرارات متهوّرة وغير عقلانية تغذّيها وسائل التواصل الاجتماعي والتغطية الإخبارية المنحازة, من ناحية؛ والإفراط في الثقة مع ارتفاع الأسعار والقيام باستثمارات تفوق القدرة على تحمّل خسائرها, من ناحية أخرى. وهي سلوكيات ينتج عنها دورة ذاتية التحقّق مصحوبة بمزيج من الذعر وتذبذب الأسعار الناتج إما عن مضاعفة الاستثمارات أو التخلّص منها.
مثلّث خطير, طبعاً, يستدعي دراسة أعمق للخصائص الفردية التي تدفع المستثمرين لخوض غمار مخاطره. لكن قبل ذلك, فلنغُص أكثر في البنية التحتية للعملات المشفّرة. غوص يأخذنا إلى سلاسل الكتل أو الـ"Blockchains": وهي أشبه بدفتر أستاذ رقمي عماده شبكة عالمية من أجهزة الكمبيوتر التي تجري صيانتها باستمرار حفاظاً على البيانات وجودتها. وبينما يمكن التفكير بسلاسل الكتل كنظام تشغيل شبيه بأنظمة "Android" أو "iOS" للهواتف الذكية اعتماداً على مجموعة قواعد حوسَبة غرضها إنشاء التطبيقات, تمثّل العملة المشفّرة تطبيقاً يعمل بواسطة نظام التشغيل ذاك, بحسب إيان ماكراي, مدير شركة "High Potential Psychology" البحثية.
توفّر سلاسل الكتل كنزاً من البيانات السلوكية مفتوحة المصدر لقياس السلوك الفردي المرتبط بالمحافظ الرقمية. وما أصاب برنامج "Anchor" سنة 2022 خير مثال. فالأخير صُمّم لأتمتة حسابات الادخار والقروض باستخدام العملات المشفّرة " Terra" و"Luna". لكنه شهد إحدى أسرع عمليات الصعود والهبوط في تاريخ العملات تلك. إذ انهارت قيمته المالية بين أيار/مايو وحزيران/ يونيو 2022 من حوالى 50 مليار دولار إلى ما يقرب الصفر.
أتاح الانهيار للباحثين فرصة تحليل 228 مليون معاملة من 3.7 مليون عنوان مختلف على مدار 19 شهراً. ولفتت النتائج, التي نُشرت لصالح المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الأميركي, إلى أن الأنماط السلوكية المرافِقة حاكت أنماط التهافت على سحب الودائع التقليدية. أمر دفع بالباحثين للاعتقاد بأن البيانات المفتوحة لا تسهم بالضرورة في اتّخاذ قرارات أفضل من قِبَل الأغلبية.
بدوره, وجد بحث نرويجي, نُشر في مجلة "Psychology & Marketing" أواخر العام الماضي, أن أقلّ من 1 من أصل 10 نرويجيين يرغبون في الاستثمار بالعملات المشفّرة. الدراسة الأولى شملت 126 بالغاً إسكندنافياً, تتراوح أعمارهم بين 18 و70 عاماً. وزُوّد المشاركون بتعريفات للسمات الشخصية الخمس الكبرى (العصابية, الانبساطية, المقبولية, الانفتاح على الخبرة, وعامل يقظة الضمير), وطُلب منهم تقييم ما إذا كان أصحاب المستويات الأعلى أو الأدنى من كلّ سمة أكثر أو أقلّ احتمالاً للاستثمار بالعملات المشفّرة. أما الدراسة الثانية, فطالت 1741 بالغاً, بمتوسط أعمار بلغ 52 عاماً, من ضمنهم 815 أنثى. وهدفت إلى التحقّق من صحة النموذج المفاهيمي المستمَد من الدراسة الأولى من خلال مقارنة المعتقدات العامة حول العوامل النفسية واستثمار العملات المشفّرة مع الملاحظات الفعلية في عيّنة نرويجية أكبر.
أبرزت الدراسة الأولى اعتقاد المشاركين بأن الذكور وأصحاب المستويات الأعلى من الثقة المالية المفرطة والكفاءة الذاتية, كانوا أكثر عرضة لقبول الاستثمار. أما الأقلّ قبولاً وضميراً واستقراراً عاطفياً, والأكثر انبساطاً وانفتاحاً على التجربة, فبدوا أكثر ميلاً للشروع به. وكشفت الدراسة الثانية تسجيل الرجال درجات أعلى في الكفاءة الذاتية المالية. بينما كانت النساء – عكس المتوقّع – أكثر ثقة من الناحية المالية, بفارق بسيط.
طبعاً قد لا تتطابق النتائج في البلدان الأقلّ مساواة نظراً لاقتصار الدراسة على السياق النرويجي, أحد أكثر السياقات مساواةً بين الجنسين, وفق الباحثين. لكن نبقى مع السمات الشخصية, حيث كشف باحثون في جامعتَي "تورنتو" الكندية و"ميامي" الأميركية, إثر تحليل بيانات على مستوى الخصائص السياسية والنفسية والاجتماعية, عن وجود ارتباط متّصل بالاعتقاد بنظريات المؤامرة والاستخدام المتزايد لمنصات التواصل الاجتماعي الهامشية.
ثمة من يرى في مستثمري العملات المشفّرة – بدافع عدم الثقة بالسلطات الحكومية التقليدية – مراهنين على المؤامرات ومعتنقين لميول سياسية بديلة (متطرّفة وعنصرية أحياناً) ورافضين لمجالات العلوم. والبحث, كما ورد في مجلة "PLOS ONE" قبل شهرين, استطلع آراء 2001 أميركي ادّعى 30% فقط منهم امتلاك عملة مشفّرة. وقد أبدى هؤلاء توجّهات سياسية متنوعة واتّسموا بسمات الشخصية "المظلمة" (النرجسية, والميكيافيلية, والاعتلال النفسي, والسادية). وهي سمات تشي بميول أنانية واستغلالية شديدة, كما بالهيمنة والخداع والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر.
أقرّ الباحثون بصعوبة الجزم بمدى القدرة على التعميم, لا سيّما خارج الولايات المتحدة. فقد يكون هناك دوافع واهتمامات متنوّعة توجّه قرارات الأفراد الاستثمارية, كما لفتوا. ومع ذلك, فقد اعتبروا أن النتائج تضفي تفاصيل قيّمة لفهمٍ أفضل للتركيبة السكّانية لمستثمري العملات المشفّرة في عالَم تترنّح ثقة قاطنيه بهياكل السلطة ومصادر المعلومات التقليدية.
النتائج عكست ما توصّلت إليه دراسة استقصائية لجامعتَي "كوينزلاند" و"ماكواري" الأستراليتين سنة 2022: من يعانون من اضطرابات "الرباعيات المظلمة" هم أكثر توجّهاً, بعقلية المقامر, للاستثمار في العملات المشفّرة. يومها, حدّد الباحثون – وفق البحث المنشور في مجلة "Personality and Individual Differences" – مجالين جاذبين رئيسين للتداول: المخاطر العالية والعوائد المرتفعة المحتملة.
طُلب من 566 شخصاً إكمال استطلاعات شخصية عبر الإنترنت حول مواقفهم تجاه العملات المشفّرة وما إذا كانوا يخطّطون للاستثمار بها. فأفاد 26% من المشاركين عن امتلاكها, وأظهر 64% منهم اهتماماً بها. ولقياس سمات "الرباعيات المظلمة", استخدم الباحثون اختبارات نفسية قياسية ربطاً للرباعيات بالأحكام المتعلقة بالتشفير: الخوف من تفويت شيء ما؛ الشعور بتحقيق الآخرين نتائج أفضل؛ الإيجابية؛ والإيمان بالقدرة على العيش.
وفّرت الدراسة, أسوة بدراسات أخرى مشابهة, نظرة ثاقبة حول سبب رغبة الناس في التداول بالعملات المشفّرة. لكن ذلك لا يعني ضرورة هيمنة السمات المذكورة على جميع المهتمين بالأخيرة. فالدوافع, على صعيد أوسع, اختصرتها لانا سوارتز, الأستاذة المساعِدة في الدراسات الإعلامية بجامعة "فيرجينيا", بقولها: "فجأة, ظهرت طريقة جديدة للرؤية والتمويل والحصول على هوية خاصة بنا كعنصر فاعل في المجال المالي". هوية وصفها الملياردير الأميركي, مارك كوبان, لمجلة "فوربس" قبل فترة بـ"دِين أكثر منها حلّاً لأي مشكلة أخرى". ففي الواقع, ليس علينا سوى التمعّن بتجربة "عائلة بيتكوين" الهولندية لفهم آثار "الدِين" ذاك على أتباعه بأعدادهم المتزايدة.