"بالنسبة لي أعمل فقط لأعيش, وليس لدي خيار آخر سوى القبول بالمتاح حاليًا, لست انا عاملا حرًا مستقلًا ولا أنا موظف, تصنفني المؤسسة فريلانسر وتعاملني كموظف, وفق دوامات أطول أحيانا من دوام الموظف, أعمل من منزلي كأنني في مكتب, ولكن الفارق انني لا احصل على تقديمات ولا ضمان صحي ولا حقوق الموظف, حتى أنني استهلك معداتي الخاصة التي اشترطت المؤسسة الإعلامية توفرها للحصول على العمل".
بهذه الكلمات يشرح الصحافي يوسف (اسم مستعار) تجربته مع نمط العمل الحر. حال يوسف هو حال العشرات من الصحافيين/ات الذين يواجهون تحديات عديدة من هذا النمط من الأعمال. ورغم هذه التحديات إلا أن سوق العمل المستقل أو الفريلانس شهد إقبالا كبيرًا في السنوات الماضية في لبنان.
وبحسب دراسة للصحافية والباحثة ناي الراعي, تم إعدادها لصالح تجمع نقابة الصحافة البديلة, ونُشرت في اليوم العالمي لحرية الصحافة 3 أيار 2023, وبعد مقابلة الصحافيين والصحافيات العاملين/ات بدوام حر, يتّضح دقّة وخطورة هذا النوع من العمل مقارنةً بالوظائف الثابتة, ومن المخاطر مثلًا, غياب الضمان الاجتماعي والصحي وغياب الأمن الوظيفي وغيرها من المشكلات.
ويحمل هذا الواقع للصحافيين المستقلين في لبنان, كمّا كبيرًا من التحديات والصعوبات, ويضعهم أمام العديد من المشكلات التي تحرمهم من حقوق أساسية في العمل, وتجعلهم عرضة لاستغلال وانعدام الأمن المعيشي, وتضعهم أمام أخطار متنوعة تصل إلى حد تهديد حريتهم وسلامتهم, وأحيانًا حياتهم.
ازدياد شريحة العاملين كـ "فريلانسرز" اليوم في القطاع الإعلامي في لبنان والاهتمام الكبير بهذا النوع من الأعمال, لم ينعكس بالضرورة على نوعية وظروف العمل, حيث لا يثير هذا الانخراط الواسع في أعمال "الفريلانس" حماسة السلطات لتنظيم هذا المجال ووضع الأطر القانونية اللازمة له, أو حتى الاعتراف به من أصله.
استغلال وظيفي
فضّل يوسف (اسم مستعار) وهو من مجموعة الصحافيين الذين شاركوا تجاربهم, و"خلافًا لباقي المجموعة", عدم الكشف عن هويته تجنبًا للضرر الذي يمكن أن يلحق بعمله "الحر" مع إحدى الوسائل الإعلامية, نتيجة عرضه لمعاناته في العمل معهم.
يعكس هذا الموقف طبيعة العلاقة التي عادة ما تجمع بين الصحافيين المستقلين في لبنان والمؤسسات الإعلامية المشغّلة. علاقة غير متكافئة, تتمتع فيها المؤسسات وأصحاب العمل بالقوة والقدرة على فرض الشروط, مقابل خضوع العاملين لحاجتهم إلى العمل ومردوده, خاصة في ظل منافسة مرتفعة في المجال, تعزز من القوة التفاوضية لأصحاب العمل.
منذ عام 2020 ومع خسارته لوظيفته كمنتج صحفي, اختار يوسف أن يتجه إلى نمط العمل الحر وأن يصبح صحافيًا مستقلاً يعمل لحسابه دون ارتباطات واعتماد على وظيفة ثابتة, وتخلى في سبيل ذلك عن العديد من الفرص الوظيفية التي أتيحت له.
اختبر يوسف العمل على مشاريع محددة ومنفصلة, قدم مقالات وتحقيقات لجهات مختلفة وتعاون مع وسائل إعلامية عدة, إلا أن العقبات التي واجهته, من مشاكل في قلة الفرص والبدلات المتدنية, وتأخر في الحصول على المستحقات يصل إلى عام كامل أحيانا, دفعه للتخلي عن مكاسب "النمط الحر" الذي كان ينشده في العمل, والرضوخ لظروف عمل جعلته "موظفًا بهيئة فريلانسر" كما يقول.
الظروف الاقتصادية وضغط المتطلبات والالتزامات المالية دفعت يوسف للقبول بالعمل من منزله كمحرر للأخبار, بدوام كامل محدد بالساعات وأيام العطل, وبراتب شهري ثابت, ولكن تحت مسمى "فريلانسر" الذي فضلت المؤسسة اعتماده عند اتفاقها معه على العمل شفهيًا, حيث لم تعمد حتى إلى إبرام عقد عمل "فريلانس".
حاول يوسف أن يطالب بالتعامل معه كموظف, ولكن الرد أتاه أن "ظروف المؤسسة حاليًا لا تسمح بإبرام عقود توظيف".
بدورها اليسار قبيسي, من "تجمع نقابة الصحافة البديلة", تنقل عن تجارب الصحافيين الفريلانسرز التي تطلع عليها "حالة عدم امان وظيفي كبير يعانون منها", وحجمًا كبيرًا من الصعوبات والتحديات التي تترصدهم.
وتشرح أنه وبعد الأزمة الاقتصادية بات هناك توجهًا عامًا لدى المؤسسات الصحافية بعدم التوظيف وتفضيل العمل مع فريلانسرز "وهو ما يعفيهم من ضمان الموظفين وتعويضهم والالتزام بالتقديمات لهم. ما أنتج حالة من عدم الأمان الوظيفي في القطاع الإعلامي ككل".
هذا التوجه يؤدي أيضًا إلى انتشار عمليات "توظيف مقنع" بمسمى فريلانس, بحسب قبيسي, حيث تفرض مؤسسات على العاملين كفريلانسرز دوام وحضور إلزامي والتزام بالعمل واحيانا منع عمل في أماكن أخرى, كل ذلك بعقد عمل استشاري بات يتم اعتماده على نطاق واسع مهما كانت نوعية العمل الذي يقومون به, وهو ما يخالف مفهوم العمل الحر بل أقرب لمعاملة الموظف, ولكن محروم من حقوقه في كل ما يتعلق بالتقديمات وتعويضات نهاية الخدمة وحق الانتساب للضمان وغيرها.
"لم نكن نعلم بحقوقنا!"
سارة حطيط, حسن سنديان, أسعد سمور وأيمن شروف, 4 صحافيين لبنانيين يرتبط عملهم بشكل أو بآخر بسوق العمل الإعلامي الحر في لبنان, يعبرون من تجاربهم, وكل من موقعه, عن أبرز التحديات التي تواجه "الفريلانسر" في القطاع الإعلامي, وآلية التعامل معها, ويقترحون في السياق نفسه حلولاً يجدونها مناسبة للمشاكل التي تواجههم في إطار "العمل الحر".
بدأ حسن سنديان, مسيرته في العمل الحر كصحافي مستقل منذ نحو 5 سنوات, بعدما خسر هو الآخر وظيفته الثابتة عقب الأزمة الاقتصادية التي شهدها لبنان, فلجأ للعمل "عالقطعة".
رغم طول مدة عمله في هذا النمط, لم يوقّع سنديان أيّ عقود مع الجهات التي عمل معها على تنوعها في لبنان, وعوضًا عن ذلك يعتمد على المعرفة والثقة الشخصية ومهنية الأشخاص الذين يتعامل معهم لضمان حصوله على حقه.
وكما هو الحال مع يوسف, لم يكن حسن سنديان يعلم أصلًا بوجود عقد عمل خاص بالفريلانسرز, حيث دائمًا ما اعتقد أنه لا يوجد عقد يحكم العمل بين أصحاب العمل والصحافي المستقل. ولم يفكر من قبل في طلب إبرام عقد من هذا النوع.
وكنتيجة لذلك, يشكو سنديان من مرات عدّة قام خلالها بتأدية قسم من العمل المتعلق بالبحث وعرض الأفكار واحيانًا العمل عليها, قبل أن يفاجأ بإيقاف التعاون مع الجهة المشغلة من طرفها, دون أي تعويض أو مقابل, ودون أن يعلم كيف يحصّل حقه في هذه الحالات.
كان يبدأ سنديان عمله دون حتى أن يعرف قيمة البدل الذي سيتلقاه, حيث فوجئ بكثير من الأحيان ببدلات غير مناسبة, وفق ما يقول, في وقت لا يعرف فيه آلية تحصيل حقوقه قانونيًا كفريلانسر, ولا يؤمن أن رفع دعاوى قانونية من شأنه أن يحصّل له حقه, وبدلاً من ذلك قد يميل إلى اللجوء إلى الضغط عبر النشطاء والتجمعات الصحافية وقد يصل إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتشهير بالجهة والتحذير من التعامل معها.
كذلك لا يجادل بالأسعار المقدمة لإنتاج المواد الصحافية, وإنما يسير بالمعروض عليه, وذلك لمعرفته التامة بحسب ما يقول أن هذا الأمر لا يمكن المجادلة فيه, "وغالبًا ما يؤدي ذلك لخسارة مشروع العمل وفشل الاتفاق", إذ دائمًا ما تكون الجهات المشغلة متشبثة بمخصصاتها المحددة للمشاريع وغير مستعدة للتفاوض بحكم وجود خيارات كبيرة ومنافسة شديدة في المجال الصحافي الحر.
من ناحيتها سارة حطيط, وهي صحافية ومدربة على الصحافة المستقلة تنتهج نمط العمل الحر منذ عام 2017, وتعتبر أن أبرز التحديات التي قد تواجه الصحافي المستقل تتمثل في وعيه لحقوقه وحرصه عليها وتقديره لعمله وما يستحقه في المقابل, وهو ما يجب أن يدفعه للإلمام بالتفاصيل التي من شأنها حمايته في سياق "العمل الحر".
ليس من السهل على الصحافيين بحسب سارة الانتقال بنظام تفكيرهم من ذهنية الموظف الثابت إلى ذهنية الصحافي المستقل الفريلانسر, "فالعمل الحر يفرض تحديات مختلفة عن الوظيفة, فهنا الصحافي المستقل هو من يدير آلية العمل وتوقيته ومدته ويدقق ويراقب جودته, وهو أيضًا المسؤول عن ضمان حقوقه وحمايتها", بكونه غير مشمول بالحماية التي يقدمها قانون العمل اللبناني.
وفي وقت لا يعتبر العمل الحر في لبنان مخالفًا للقانون, إلا أنه لا يوجد قانون عمل خاص بهذا النمط لتنظيمه, وبالتالي لا يتمتع العامل الحر بحماية قانونية مباشرة كالتي يتمتع بها الموظف أو الأجير بحسب قانون العمل اللبناني.
تتحدث حطيط عن وجود اختلال بأصل العلاقة بين الصحافي المستقل والمؤسسات الإعلامية وموازين القوة, وهو ما يفرض على الفريلانسر واجبًا تجاه نفسه "أن يطرح شروطه, ويفاوض بقوة لتحصيل حقوقه وحمايتها, وعدم القبول بسير الأمور "بالخوشبوشية" على الطريقة اللبنانية.
وترى في هذا السياق ضرورة للتوعية على المخاطر التي قد تنجم عن آليات عمل غير مهنية وغير محترفة. هذه المعايير اكتسبتها حطيط من خلال تركيز عملها مع جهات محترفة من خارج لبنان, اكتسبت منها وعيًا لحقوقها والظروف المناسبة والعادلة والأكثر أمانًا للعمل, وهو ما لا توفره في معظم الأحيان تجارب العمل الحر مع جهات محلية.
على سبيل المثال, تطرح حطيط النقص السائد بين الفريلانسرز في فهم آلية تسعير العمل, والتي يجب أن تتضمن تلك الحاجات التي لا يؤمنها العمل الحر, "حيث لا يجب أن يقتصر التسعير على بيع الوقت اللازم للإنتاج فقط, هناك أيضًا تكلفة الإنتاج نفسها, وتكلفة استهلاك الأدوات والمعدات, وتكلفة التأمين الصحي وطوارئ العمل وتعويض غياب التقديمات الاجتماعية", داعيةً إلى تغيير هذه الذهنية "التي ترضى بأي بدل, خشية عدم الحصول على فرصة العمل".
تحديات عديدة
يعبر الصحافيون المستقلون في لبنان عن تحديات ومعوقات مشتركة فيما بينهم لعملهم الحر, يأتي في طليعتها انعدام الشعور بالأمن والاستقرار الوظيفي, والذي ينعكس عليهم ضغوطًا نفسية كبيرة جدًا وفق ما يقول الصحافي المختص باقتصاد العمل أسعد سمور.
سمور الذي يعمل بدوره على مشاريع صحافية بنمط العمل الحر, يلفت إلى أبرز تحدياته المتمثلة بغياب الدخل الثابت وبالتالي غياب الإنفاق الثابت, فضلاً عن غياب التقديمات الاجتماعية والرعاية الصحية ومخصصات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة والمنح التعليمية.
وكان يمكن للعمل الحر أن يكون أقل ضغوطًا, وفق سمور, لو أن الضمان الاجتماعي مثلاً يشمل جميع السكان, "لما كان غيابه يشكل مشكلة للفريلانسرز, الأمر نفسه بالنسبة للتعليم والتقاعد وضمان الشيخوخة."
عدم قدرة الفريلانسر على الانتساب للضمان الاجتماعي في لبنان, يحرمه في المقابل من حقه كعامل في الانتساب إلى النقابات المهنية, التي تشترط التسجيل في الضمان, وهو ما ينتج واحدة من أبرز معوقات الصحافيين المستقلين في لبنان في تحصيل حقوقهم وتحسين ظروف عملهم.
حتى أن تعريف الإعلامي في القانون اللبناني, لا يشمل بحسب سمّور الصحافيين المستقلين, حيث تعتبر الدولة اللبنانية أن الإعلامي "هو من عمل كليًا أو جزئيًا في الإعلام", بينما الفريلانسر لا يعتبر عاملاً لا بدوام كلي ولا بدوام جزئي, وهو ما يسقط عنه صفة الإعلامي وحق الانتساب للنقابات الإعلامية.
وعليه يؤكد سمور أن إحداث تغيير في واقع الصحافيين المستقلين في لبنان, يبدأ من تعديل تعريف الإعلامي في القانون نفسه ليشملهم ويتيح لهم العمل النقابي, الذي ومن دونه لا يمكن إحداث ضغط وتأثير.
حماية غائبة
وفقاً للصحافيين المستقلين المستطلعين, نادرًا ما تشتمل العقود الحرة الموقعة مع أصحاب العمل على ضمانات تتعلق بطوارئ العمل وتغطيتهم الصحية وحمايتهم القانونية, ما يمثل تحديًا آخر يهدد سلامة العاملين بهذا النمط واستمراريتهم.
فانعدام هذه الضمانات يجعلهم إما مكبلين في عملهم أو يمارسون مخاطرة في تأديته, وينعكس ذلك مزيدًا من التكاليف المادية عليهم, والتي إذا ما أضافوها على التعرفة المطلوبة سيخسرون المنافسة وفرص العمل.
لا تقدم معظم المؤسسات في لبنان بطاقات تعريف أو طلبات تسهيل عمل أو أذونات تصوير للصحافيين المستقلين, ووفق ما يؤكدون, حتى معدات الحماية مثل الخوذة والدرع يضطرون لاستئجارها على حسابهم الخاص أو اللجوء إلى تقديمات من مبادرات لدعم الإعلاميين المستقلين والتي تؤمن لهم هذا النوع من الحاجات.
وفي ظل انعدام ضمانات طوارئ العمل وتهرب المؤسسات من تحمل مسؤولية العاملين لصالحها, يرى سمّور أنه على الفريلانسر أن يلتفت إلى طبيعة العمل المطلوب منه, فإذا كان ينطوي على مخاطر يجب أن يصر على إدراج شروط متعلقة بضمان طوارئ العمل في العقد المبرم مع الجهة المشغلة, والتأمين على معداتهم التي يستخدمونها من طوارئ العمل أيضًا, والتي عادة لا تتكفل بها المؤسسات.
وبعيدا عن العقد الموقع بين الطرفين وشروطه وملزماته, يؤكد سمور أنه "ليس للفريلانسر اليوم في لبنان أي حماية قانونية".
حتى في حال إخلال الجهة المشغلة بعقد الفريلانس الموقع مع الصحافي المستقل, لا يمكنه في هذه الحالة أن يلجأ إلى محكمة العمل, بحسب الصحافي المختص باقتصاد العمل, بل يجب أن يتوجه إلي محاكم أخرى مختصة, وهنا تبرز مشكلة أن محكمة العمل ليس فيها رسوم ولا تتطلب محاميًا, بينما في غيرها يصبح هناك تكاليف الرسوم وتكاليف المحامي.
لذا يجب, بحسب سمور, تعديل قانون العمل بكليّته بشكل يضمن أن العامل الفريلانسر يعطي الصلاحية لمحكمة العمل بالنظر بقضاياه, كي يستفيد من إمكانية تقديم الدعوى دون تكاليف لا يستطيع تحملها.
البدلات لا تكفي!
يتكرر بين الصحافيين المستقلين التعبير عن التحدي المادي الذي يمثله عملهم دون أجر ثابت ومقابل بدلات قليلة لا تكفي لسد احتياجاتهم المالية.
هذا الواقع يدفعهم وفق سمور في كثير من الأحيان إلى زيادة ساعات عملهم وخسارة أوقات الراحة والإجازات, "فنحن نبيع بشكل أساسي وقتنا الذي نقدم فيه العمل, لكن ومع الضغوطات تصبح الـ8 ساعات 16 ساعة."
وفي النهاية يتحول العمل الحر إلى "استعباد ذاتي" يمارسه الشخص على نفسه مدفوعًا بحاجته, بحسب سمور, الذي ينتقد الدعاية التي تقول بأن "الفريلانسر سيد نفسه", لافتًا إلى أن الصحافي الذي يعمل على حسابه, إذا مرض سيدفع وقت مرضه الضائع من جيبه, وإذا تعرضت معداته للتلف سيدفعها من جيبه بعدما بات مسؤولاً عن تأمين أدوات الإنتاج, وسيبقى أسير دوامة ساعات العمل الطويلة لتنفيذ الأعمال وتحصيل أكبر عدد ممكن منها لزيادة مدخوله.
ويضيف أن الحل لهذا التحدي هو انتظام العاملين المستقلين في قطاع الإعلام بتجمعات نقابية, تتيح لهم التباحث والنقاش حول حاجاتهم, مثل تحديد تعرفة موحدة ومدروسة تمثل الحد الأدنى لكلفة المنتج الإعلامي وفقا لنوعه وحجمه.
ما سبق من تحديات تفرض على الصحافيين عدم إمكانية الاعتماد على العمل الحر بشكل كامل, خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية التي تفرض الحاجة إلى مدخول ثابت وتقديمات اجتماعية وصحية وغيرها, حيث يلفت سنديان إلى أنه "حتى إلى جانب هكذا وظيفة قد أكون مضطرًا أيضاً لأداء بعض الأعمال كفريلانسر لزيادة المدخول".
في المقابل تشدد حطيط على وجوب تمسك الصحافيين بحقهم في اختيار نمط العمل الذي يرتاحون له ويناسبهم, إن كان وظيفة أو فريلانس, "ليس هناك صح أو خطأ, قد تكون الوظيفة مغرية جدًا في مقابل عدم الاستقرار الذي يعيشه الفريلانسر, وهذا ما يفسر لماذا يميل الفريلانسر لاعتبار عمله المستقل والحر كمرحلة مؤقتة إلى حين العثور على وظيفة ثابتة".
لكن وفي المقابل لا يجب, بحسب حطيط, أن يؤثر اعتبار العمل الحر مرحلة مؤقتة, على اندفاع الفريلانسرز في القطاع الإعلامي للدفاع عن حقوقهم والمطالبة بتحسين أوضاعهم باعتبارها "مؤقتة".
صعوبة الوصول إلى الفرص والمعلومات
من بين التحديات التي يواجهها الفريلانسر أيضًا هي تلك المتعلقة بعدم تجاوب المصادر والسلطات الرسمية والمسؤولين معه حيث تسود ثقافة التعامل أكثر مع الوسائل الإعلامية المعروفة والتقليل من شأن الفريلانسر كصحافي مستقل, "ولا يؤخذ في بعض الأحيان على محمل الجد, وقد يُستبعد من الحصول على المعلومات", وفق ما يشير حسن سنديان.
ورغم الإقبال المتنامي على العمل الحر, لا يوجد في لبنان بعد أي وجهة أو منصة أو موقع, يمثل للصحافيين المستقلين "سوق العرض والطلب", على غرار العديد من التجارب حول العالم لإتاحة الفرص, وعوضًا عن ذلك يعتمد الصحافيون على معارفهم وعلاقاتهم العامة إضافة إلى البحث المضني للوصول إلى مشاريع وفرص العمل.
هذا البحث المستمر وعدم اليقين من وجود الفرص يفرض مزيدًا من الصعوبات على عمل الفريلانسرز, ويكلفهم جهدًا ووقتًا وحتى تقديم تنازلات في عملهم, وهو ما دفع سارة حطيط للمبادرة إلى إنشاء مجموعة عبر تطبيق واتساب تهتم بعرض الفرص المتاحة للعمل وتبادل الفرص بين الزملاء الفريلانسرز أطلقت عليها اسم "شبكة مسار", باتت تضم نحو 700 صحافي لبناني وعربي يتبادلون العروض والطلبات المتاحة, ووظفت فيها علاقاتها العامة مع الصحافيين المستقلين من جهة ومع المؤسسات الإعلامية من جهة أخرى لتبادل المنفعة وفرص التعاون.
وترى الصحافية والمدربة المستقلة أن البحث المستمر عن فرص جديدة ليس عائقًا إنما جزء من أسلوب العمل الحر, كما هو حال اكتساب ثقة المؤسسات للحفاظ على تدفق فرص العمل والمشاريع المطلوبة, من خلال الأداء المميز والالتزام. حتى المنافسة العالية, تجدها حطيط تحديًا إيجابيًا يفرض الاستمرار في تطوير الذات والاطلاع على المستجدات في المهنة.
نموذج "مشكور به"
في سياق حديثه عن معاناته في العمل مع العديد من الوسائل الإعلامية المحلية والعربية, وبعضها لا يزال يعمل معهم, يصر حسن سنديان على استثناء موقع "رصيف22" من تلك الممارسات, ويشدد في كلامه أكثر من مرة على مدى التقدير والمهنية التي يتلقاها خلال عمله مع هذه المؤسسة الإعلامية.
وفي ظل عدم حماسة الكثير من الوسائل الإعلامية المحلية في لبنان, للحديث عن آلية تعاملها مع الصحافيين المستقلين, توجهنا إلى إدارة تحرير موقع "رصيف22" للاطلاع منهم على المعايير, "المشكور بها", والتي تنظم علاقة تعاونهم مع الفريلانسرز.
كان اعتماد العقد الموقع بين الطرفين أول ما جرى الاستفسار عنه خلال الحديث مع رئيس تحرير الموقع أيمن شروف, وكانت المفاجأة بعدم وجود هذا العقد الموقع مسبقًا, والذي يعتبر النصيحة الأولى التي يوجهها المختصون للفريلانسرز ويصرون عليه كسبيل لضمان الحق.
إلا أن شرّوف يوضح أن آلية عمل الموقع المنتشر في 22 دولة عربية, والذي يتعامل مع عشرات الصحافيين المستقلين من دول مختلفة, بحيث تشكل أعمال الفريلانس نحو 70% من محتوى الموقع, لا تسهّل من عملية توقيع العقود المنفصلة مع كل صحافي وعند كل تكليف أو اتفاق على إنتاج مادة.
لكن في المقابل لا يحجب الموقع أدلة تعاونه مع الصحافيين التي تكون بمثابة إثبات على الاتفاق, بل يرسل عند كل تكليف بريد إلكتروني واضح يشير فيه إلى التعاون المطلوب والبدل المرصود له والمدة المتوقعة للتسليم.
بالإضافة إلى ذلك, يلتزم الموقع بما يصفه شروف "سياسات ومعايير أخلاقية ثابتة" تجاه جميع الصحافيين المستقلين الذين يتعاون معهم. تقوم بالدرجة الأولى على اعتبارهم صحافيين يتمتعون بكامل حقوقهم, "نعطيهم الأولوية المطلقة, ويصبحون جزءًا من أسرة وفريق الموقع, يتم التعامل معهم على هذا الأساس في مختلف المجالات, خاصة فيما يتعلق بفرص التطوير والتدريب المهني وتنمية القدرات والمعارف, نتيح لهم هذه الفرص بالتساوي كما نتيحها لباقي الموظفين".
لا يشترط الموقع لإتاحة فرصة العمل معه إلا القدرة على تقديم المحتوى المطلوب بما يتناسب مع السياسة التحريرية للموقع, "ما عدا ذلك, الباب مفتوح أمام جميع الفريلانسرز", يؤكد شروف.
ولناحية الحرص على سلامة الفريلانسر, يستطلع الموقع, منذ بداية التعاون, مدى تأثير المواد المطلوبة على سلامة وأمن الصحافي, بحسب شروف الذي يضيف: "ورغم أننا لا نفضل ذلك, لكننا نتيح إمكانية حجب الاسم إذا كان هناك دواعي تتعلق بأمن وسلامة الصحافي, وفي حال حصول أي نوع من التهديد أو تعريض الصحافي أو الضيوف لخطر فإننا أيضًا نعمل فورًا على إزالة المادة واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحماية المصادر والعاملين معنا, مهما كانت أهمية المحتوى أو نجاحه".
يستجيب الموقع لطوارئ العمل التي تلحق بالفريلانسرز العاملين معه, "نقف إلى جانبه, نؤمن حاجاته, نتكفل بعلاجه, ونضع سلامة الصحافي في رأس الأولويات لدينا, بما يتخطى أولوية الحصول علي المادة الصحافية", بحسب شروف.
وفي التكليفات التي تتطلب عملاً ميدانيًا, يحافظ الموقع على تواصله مع الفريلانسر للاستفسار عن أي طوارئ أو مستجدات, وفي الحالات التي تتطلب دعمًا قانونيًا أو عرقلة عمل من قبل السلطات, يؤكد شروف أن الموقع يسخّر شبكات علاقاته الواسعة مع الحقوقيين والقانونيين في سبيل حماية الصحافيين العاملين معهم, وصولا لتقديم المساعدة القانونية اللازمة.
أما ما يتعلق بسلامة معدات الصحافيين المستقلين, لم يواجه الموقع هكذا موقف من قبل بحسب ما يؤكد شروف, "إلا أننا دائمًا على استعداد لتقديم التعويض اللازم في حال وقوع أضرار خلال العمل على تكليف معين من قبلنا. فبالنسبة لنا تكليف الصحافي بمادة أو عمل يعني من ناحيتنا تحمل كامل للمسؤولية المترتبة عنها".
يأخذ الموقع أيضًا آلية تسعير المواد المطلوبة بعين الاعتبار, حيث لا يعتمد تعرفة موحّدة, بل تتغير بحسب نوعية المادة وما تتطلبه من مجهود ومعدات وتكاليف, كما أنه يأخذ في حسبانه المواد التي تكلف بشكل غير متوقع مصاريف زائدة على الصحافي المعد, "ولدينا دائمًا استعداد لتعديل البدل بالتشاور مع إدارة التحرير, لتأمين أجر عادل".
وبحكم طبيعة مواد الموقع التي تهتم وتحلل "ما بعد الخبر", فإنه ينتهج سياسة متسامحة مع التأخر في تسليم المواد حتى لو كان متفق على وقت مسبقًا, "خاصة واننا نقدر طبيعة العمل الصحافي الذي يتخلله الكثير من المعوقات والمستجدات."
أما بالنسبة لوتيرة صرف الأجور, يوضح شروف أن الموقع يعمل وفق آلية موضحة للعاملين كفريلانسرز منذ بداية التعاون, "وهي اننا ندفع البدلات كلما أتم عدد المواد المنتجة الـ5 مواد, ولكن في الوقت نفسه وإذا ما طلب الصحافي أن يحصل على مستحقاته قبل إتمام المواد الخمس فإننا نؤمن ذلك دون أي تردد, لفهمنا طبيعة عمل الفريلانسرز, ودائمًا ما نعتمد توقيع استمارة تؤكد دفع وتلقي الأجر في النهاية".
حلول مطروحة
ما يعتمده "رصيف22" قد يشكل استثناءً نادرًا وليس القاعدة العامة القائمة في سوق عمل الفريلانسرز, لذا فإن الخبراء والمختصون في هذا المجال يشددون على مجموعة من النصائح التي يجب على الفريلانسر أن يحرص على تطبيقها, ومنها بحسب سموّر:
- التشديد على إبرام عقد موقع من الطرفين يُفنّد بوضوح تفاصيل العمل والمقابل المادي والتقديمات المشمولة, والتغطية المؤمنة.
- الحرص على تقييم كل عمل ومهمة على حدى, لتبيان مدى تكلفتها, والمخاطر التي قد تحملها, ومحاولة تحصيل تغطية لطوارئ العمل بحكم طبيعة العمل الصحافي.
- عدم الخوف من التفاوض وعرض الشروط المطلوبة من جهة الصحافي المستقل ليشعر بأنه يتلقى الأجر والتقديمات المناسبة والعادلة.
- السعي للانتظام ضمن تجمعات نقابية ومهنية وطرح قضاياهم كمجموعة عمال.
- محاولة وضع حد أدنى مدروس للبدلات يغطي الحاجة ويتناسب مع العمل, والالتزام به.
- عدم القبول بالتعامل معهم كموظفين دون إعطائهم الحقوق والتقديمات المفروضة للموظف, وعدم القبول بعمل فريلانس يفرض دوامًا محددًا أو تبعية إدارية, وعند فرض هذه الحالة عليهم, يمكنهم إثبات تبعيتهم الإدارية والتزامهم بدوام أمام السلطات المختصة, حيث يتم التعامل معهم كمستفيدين من الحماية في عقد قانون العمل اللبناني, وهذا يصب في صالحهم.
الأنباء