كارين عبد النور ـ زفاف في موقع أثري لبناني… إبحثوا عن المحسوبيات!
لسنا بإزاء مجرّد حفل زفاف في موقع فقرا الأثري في قضاء كسروان اللبناني. فالحدث يعيد إلى الواجهة مسلسل التعدّيات على المواقع الأثرية اللبنانية وسُبل حماية إرث البلد الثقافي في ظلّ غياب شبه تام لدور الوزارات والإدارات المعنية. إذ بعد التعدّي على جسر نهر الكلب الأثري في القضاء عينه, اختار المقاول نفسه – وهو رئيس بلدية مدعوم سياسياً – يوم الرابع من آب المقبل لتنظيم حفل زفاف نجله على موقع البرج والمذابح في قلعة فقرا المصنّف "حسّاساً" بيئياً وأثرياً والذي وصفه المؤرّخ والكاتب الفرنسي, إرنست رينان, بمجموعة الآثار الأروع في جبل لبنان. علماً بأن التاريخ المذكور حزين بكلّ المقاييس, كونه يفتح نافذة في ذاكرة اللبنانيين على انفجار مرفأ بيروت المشؤوم.
في التفاصيل, تقدّم رئيس بلدية بلدة كفردبيان الكسروانية, الشهر الجاري, بطلب من الرئيسة العامة لرهبانية مار يوحنا المعمدان – حراش, لاستخدام العقار رقم 4087 التابع للرهبانية والذي يضم آثاراً رومانية ضاربة في القِدم. أما الهدف, فإقامة نشاطات ثقافية وتراثية ودينية ومعارض زراعية تمتدّ حتى تشرين الأول/أكتوبر المقبل, على أن يتمّ ذلك ضمن القوانين المرعية الإجراء وبعد الاستحصال على الأذونات اللازمة من الوزارات والإدارات المختصة. وعبر كتاب خطّي بتاريخ 13/07/2024, أعربت الرئيسة العامة عن عدم ممانعتها. لكن المفاجأة برزت حين قرّر رئيس بلدية بلدة بقعتوتة المجاورة (أي المتعهّد), بالاتفاق مع رئيس بلدية كفردبيان, استغلال كتاب الرهبانية, المشروط بأنشطة محدّدة, للاحتفال بزفاف نجله في الحرم الداخلي لقلعة فقرا, قبل أن يعود ويستبدل المكان بالساحة التي تقع ضمن العقار 4087 آنف الذكر.
البيئة تنفي علاقتها
للاستفسار أكثر عن الأعمال والتحضيرات التي بدأت دون سابق إنذار, تواصلنا مع جمعية "الأرض – لبنان" والتي كانت, مشكورة, أول من أثار هذه القضية. فأوضحت بأن العقار المذكور قد أًدخل عام 1960 في قائمة الجَرد العام للأبنية التاريخية بموجب القرار 103, ما يوجب تطبيق المادة 23 من قانون الأنظمة العامة للآثار رقم 166 ونصّها: "القيد في الجَرد يوجب على أصحاب الملك أن لا يباشروا على أرضهم أدنى تحوير في العقار أو في قسم من العقار المقيّد وبصورة عامة أن لا يأتوا عملاً من شأنه تغيير منظر الأثر أو تغيير ميزته بدون أن يعلموا قبل شهرين دائرة الآثار القديمة عن نيّتهم هذه, وأن يعيّنوا التحويرات أو الأشغال التي ينوون إجراءها".
وبحسب الجمعية أيضاً, فإن الموقع سبق وصُنّف بالحسّاس بيئياً بحسب الملحق رقم 3 للمرسوم 8633, ما يستدعي أيضاً فحصاً بيئياً مبدئياً توافق عليه وزارة البيئة قبل البدء بالأعمال, بحسب ما نص عليه مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي في المادة الخامسة منه. لكن حين توجّهنا إلى وزير البيئة, الدكتور ناصر ياسين, تبيّن أن الأخير لم يكن على بيّنة مسبقة بما يحصل وبأن أحداً لم يتقدّم بأي طلب تصنيف, مؤكّداً أنه سيتابع الموضوع مع رئيس بلدية كفردبيان ووزير الثقافة كون الأخير هو المسؤول الأول عمّا يحصل.
والثقافة… تراقب
و أشار مصدر في وزارة الثقافة إلى أن المتعهّد توجّه إلى الوزارة, بعد أن استحصل على موافقة من رئيس البلدية, بطلب تنظيم حفل زفاف نجله في القلعة الرئيسية التابعة للمديرية العامة للآثار/وزارة الثقافة, فوافق الوزير. لكن, بعد أن تبيّن بأن الأرض مسيّجة بشكل كامل تراجع الوزير عن قراره رافضاً إقامة أي نشاط في محيط القلعة كي لا يشرَّع أمام الجميع دون أي أطر أو ضوابط. عندها, راح المتعهّد يبحث عن مكان آخر, فوجد أرضاً خارج السياج تعود ملكيّتها لراهبات دير حراش, واتّفق مع الدير على إقامة حفل الزفاف هناك, خصوصاً وأن مهرجانات أخرى ستقام في نفس المكان.
وتابع المصدر: "الموقع الذي جرى اختياره مصنّف على أنه أثري لكنه ليس ملكاً للمديرية العامة للآثار أو تحت إدارتها بل هو مدرج على لائحة الجَرد العام. هذا يعني فقط عدم إمكانية المسّ به أو إزالة أي حجر أو ترميمه أو القيام بأي عمل مشابه دون الرجوع إلى الوزارة. لا يحقّ لنا أن نحرم الرهبنة ملكها أو أن نمنعها من استخدامه كما تريد, فهناك حقّ التصرف بالملكية. كل ما يمكننا فعله هو الإشراف على الأعمال ومراقبتها. فالمشكلة يجب أن تعالَج مع البلدية والرهبنة".
"الزفاف لن يمرّ"
في سياق متّصل, أفادت معلومات خاصة بأن القوى الأمنية قامت بتحويل الملف إلى النائب العام المالي بعد أن اتخذت قراراً بوقف الأعمال. غير أن الأخير عاد وسمح باستكمالها. وثمة من يتساءل: لماذا لم يتحوّل الملف إلى النائب العام البيئي (بدلاً من المالي), وهو الوحيد المخوّل البت في هكذا ملفات؟ مختار كفردبيان, وسيم مهنا, أكّد بدوره لجريدة "الحرّة" أنه لم يحصل وأن أقيم أي نشاط خاص ضمن نطاق آثار البلدة, حتى لو كان يخصّ أهل المنطقة, لا سيّما وأنه يُمنع الاقتراب من منطقة الآثار ضمن مسافة 500 متر شعاعي.
وأضاف: "وسط تواطؤ مفضوح بين جميع الوزارات والإدارات المعنية, سيقام حفل زفاف خاص. لو كان عرساً جماعياً أو مهرجاناً أو حفلاً ثقافياً لكنّا أول الداعمين. لكننا سنواجه الحفل هذا ليس فقط حماية لتاريخ أجدادنا وتاريخ كفردبيان إنما لتاريخ لبنان بشكل عام. فإذا سمحنا بتمرير هذه السابقة الخطيرة وسط الفلتان الذي يعمّ البلد, سنشهد تكراراً غير مسبوق لمناسبات مشابهة. هي سابقة تاريخية وخطيرة تندرج ضمن الخيانة العظمى. لن نقبل بحصول الزفاف هناك بأي شكل من الأشكال".
مهنا الذي استغرب كيف يمكن لرئيس بلدية كفردبيان السماح بقيام احتفال زفاف على أرض محازية للأرض التي كان يزرعها إبن البلدة الوحيد لأهله, جو عقيقي, والذي استشهد ليل الرابع من آب في انفجار مرفأ بيروت, وجّه تحيّة لروح جو, وأسف لأن يقام في ذكرى استشهاده زفاف على أرض مغتصبة. "شكر مجبول بالعتب لكلّ من رئيسَي بلدية كفردبيان وبقعتوتة وكافة المراجع المتواطئة".
بالمحصّلة, هناك كلام عن تدخّلات بنكهة المحسوبيات السياسية تقف وراء ما يحصل. وثمة من يدلّ على "صفقة" جرى طبخها بين رئيس البلدية المعنية والمتعهّد: تمرير حفل الزفاف لقاء استفادة البلدية من المسارح ودفّ الأرضية لإقامة مهرجانات لاحقة. على أي حال, صور تفريغ بعض الشاحنات لحمولتها داخل العقار الأثري بدأت تظهر بغياب أي ممثّل عن وزارتَي البيئة والثقافة والبلدية. فأين الرقابة الموعودة؟ وهل تتحرّك الضمائر المخدّرة قبل أن تتغلّب في الرابع من آب الحالي المحاباة والمحسوبيات على هوية لبنان الثقافية كما تغلّب انفجار عاصمته ذات يوم مماثل على ما تبقّى من إرادة أبنائه؟