كتب روني عبد النور _
"أفضل طريقة للتنبّؤ بالمستقبل هي اختراعه". قول يمزج الواقع بالخيال, بغضّ النظر إن كان مطلقه الرئيس الأميركي السابق, أبراهام لينكولن, أو مواطِنه, الخبير الاقتصادي بيتر دراكر. لكن للدماغ البشري, أكثر أعضائنا تعقيداً, استراتيجيّاته المستقبلية الخاصة جدّاً. فبخلاياه العصبية التي تقارب 90 ملياراً ونقاط تشابُك كلّ منها السبعة آلاف, يثبت أنه ليس أداتنا لاختبار العالَم فحسب, بل وسيلتنا لاستشرافه أيضاً.
نعرف أن الخلايا العصبية لا تنام. فنشاطها أثناء النوم داخل مركز الذاكرة الدماغية هو ممرّ لإعادة النظر بتجارب الماضي. لكن وفقاً لدراسة نُشرت في أيار/مايو الماضي 2024 في مجلة "Nature", الخلايا تلك إنما تُبقي عيناً على المستقبل أيضاً.
خلاصة توصّل إليها فريق باحثين من جامعة "ميشيغان" عبر إجراء مزدوج: تحليل قراءات موجات الدماغ لدى الفئران خلال أوقات اليقظة والنوم؛ وتسجيل القراءات قبل وأثناء وبعد مواجهة الحيوانات لتحدّي متاهة تقييماً لتفضيلات الخلايا العصبية أثناء تمتّعها بفترات الراحة.
إضافة إلى ربط التجربة للمساحات المادية في المتاهة بنشاط عصبي محدّد في الوقت الفعلي, فهي أتاحت مساراً عكسياً لرسْم خريطة تربط نشاط الخلايا بنقاط داخل المتاهة أثناء نوم الفئران. وكانت المفاجأة أنه لدى محاولة الأخيرة الدخول في المتاهة التالية, لم تعمد إلى استعادة الأماكن التي سبق وزارتها فقط, بل هي شرعت في تقصّي طرق جديدة محتملة كذلك.
تكمن أهمية النتائج في إضاءتها على دراسة الضبط المكاني, أي الطريقة التي يرتبط بها نشاط خلايا عصبية معيّنة بأماكن محدّدة. فهل ثمة فعلاً علاقة راسخة ما بين الأحلام والنوايا المستقبلية؟ محتمل جدّاً. لكن ندع الأحلام جانباً ونعود بالزمن إلى نموذج ابتُكر سنة 2016 مكمّلاً تجارب سابقة لتوليد توقّعات مستقبلية وفهم وقع ذلك على إدراكنا للوقت.
في دراسة أوردتها مجلة "Scientific Reports", كُشف عن أن التنبؤات التي يتمّ تحديثها باستمرار حول الأحداث المستقبلية هي أساس كيفية إدراكنا للعالَم. إذ إننا نقوم بالتخطيط لما يجب إنجازه كون ذلك يمكّننا من التنبّؤ بمدى فعالية الخطوات المقبلة قبل اتّخاذها. والحال أن تصوّراتنا ليست سوى نتاج مزيج من التوقّعات والمعلومات الحسّية, إذ نجنح لإدراك العالَم لا كما هو بل كما نتوقّعه أن يكون.
استخدم العلماء من جامعة "برمنغهام" تسلسلات منتظمة من الإيقاعات لتسليط الضوء على كيفية توقّعنا للتوقيت المستقبلي, إسقاطاً لدروس الماضي على خطط المستقبل. وطُلب من المشاركين الإبلاغ عن توقيت الحدث الأخير في تسلسل منتظم من إشارات التنبيه. فاعتمد هؤلاء تلقائياً, ودون وعي, على انتظام التسلسل للتنبّؤ بموعد ظهور المحفّزات في المستقبل. كيف؟ حين كان التوقيت منتظماً, تمكّنوا من توقّع التحفيز؛ ولمّا عُدّل التوقيت بعض الشيء, أفادوا بوقوعه في المنتصف بين الوقتين الفعلي والمتوقّع لحدوثه.
يومها, ألقت البيانات الضوء على آلية استخدام العقل البشري للمعلومات المستقاة من الحواس وتحديث التوقّعات باستمرار لتوجيه أفكارنا وتصرّفاتنا. فتساءل العلماء: ماذا لو سلّحَنا إتقاننا للعبة الدماغ التنبّؤية بقدرة على تلقين الروبوتات الأساليب تلك؟ سؤال نتركه بِرسم المستقبل لِنغوص أكثر في رحلة الحواس هذه. فالسائد يدلّنا إلى نشوء الإدراك تبعاً لسلسلة خطوات تنبع من الأعضاء الحسّية المتلقّية للمعلومات الخارجية. ثم يتدخّل الدماغ مستخدماً المعلومات لتكوين تصوُّر داخلي متماسك عن الخارج.
لكن السائد لا يحيط بالمسألة برمّتها. إذ ثمة نظرية إدراكية, سبق وطرحها سنة 2010 عالِم الأعصاب, كارل فريستون, في مجلة "Nature Reviews Neuroscience", وتفترض اتّباع الدماغ نهجاً معاكساً. يقول فريستون إن إدراكنا للعالَم يحدث عبر بناء الدماغ لنماذج تخمينية متتالية, قوامها مخزون التجارب السابقة, حول الشكل الذي يجب أن يبدو عليه الخارج. بعدها, يقارن الدماغ التنبّؤات مع البيانات الحسّية. فإن غاب التطابق, ينبري لتحديث نماذجه – تنقيحاً وتكيّفاً – للحدّ من هامش الخطأ.
يصبح العديد من أعراض الاضطرابات العقلية, والحال كذلك, نتاج فشل الدماغ في تقييم مناسب لأخطاء التنبّؤ. فبدلاً من تصحيح الخاطئ منها, قد تعطي حلقات ردود الفعل التالفة في دماغ مصاب بالفصام, مثلاً, وزناً غير مناسب لفرضية غير صحيحة. وهذا يؤدّي إلى نشوء واقع منفصل لدى المصاب عن العالَم الخارجي. لكن ما الدور التي تلعبه الأنماط في تمرُّس الدماغ في توقّع الأحداث المستقبلية؟
أوضحت دراسة سنة 2018 لجامعة "كاليفورنيا – بيركلي", نشرتها مجلة "PNAS", أن دماغنا يعتمد على نظامين متميّزين لدى توقّع حدث ما: أحدهما يتيح التوقّع بناءً على التجارب السابقة, بينما يعتمد الآخر على تحديد الأنماط الإيقاعية. وقد استعان الفريق بمجموعة من مرضى الـ"باركنسون" وتنكُّس المخيخ, حيث تتّسم الحالتان باختلالات في التنسيق والتوازن, رغم تأثيرهما على مناطق دماغية مختلفة.
حلّل الباحثون, في كلّ حالة, دور الإشارات الزمنية في الردّ على اختبارات مختلفة. فتبيّن أن مرضى المجموعتين استجابوا لتسلسلين مختلفين من المربّعات الملونة التي تومض على شاشة كمبيوتر: في التمرين الأول, تعاقبت المربّعات بوتيرة إيقاعية ثابتة؛ وفي الثاني, توالت بنمط مختلف لا يتبع إيقاعاً ثابتاً. كما لاحظ الفريق أن مرضى الـ"باركنسون" أبدوا ميلاً لتحقيق أداء أفضل في تمرين النمط المعقّد, في حين أحسن مرضى تنكُّس المخيخ الاستجابة لاختبار التعاقب الإيقاعي.
خلص البحث إلى أن توقُّف أحد النظامين عن العمل بشكل صحيح إنما يحيل الدماغ إلى النظام الآخر لمعالجة التوقيت الاستباقي. وبما لا يقلّ إثارة, يمكن ربط الاختلالات التي قد تصيب النظامين, في سياق أوسع, بنتائج دراسة منفصلة أجرتها جامعة "أكسفورد" سنة 2021. فتوقُّعنا لاحتمال حصول حدث ما يرتكز إلى تقديرنا لبُعدين: احتمالية حدوث الأشياء من حولنا (الفرص الخارجية)؛ واحتمالية نجاحنا في مهمة ما حتى قبل المحاولة (الفرص الداخلية).
وجد البحث الذي نشرته مجلة "Neuron" أن الإحساس المسبق بمدى جودة أدائنا إنما يرشدنا للمهام والمشكلات القابلة للحلّ, ويجنّبنا تلك العصيّة عليه. وقد أدى استخدام النبضات المغناطيسية لتعديل نشاط إحدى مناطق قشرة الفص الجبهي الجانبي الأمامي من الدماغ لفترة وجيزة إلى اتّخاذ الخاضعين للتجرية قرارات صعبة كان الفشل أحد احتمالاتها. في حين ساهم تعطيل ذلك النشاط في تقليص دقّة التقدير لدى هؤلاء والإفراط في الثقة كما اتّخاذ قرارات أكثر خطورة.
في ستينات القرن التاسع عشر, نُقل عن الطبيب والفيزيائي الألماني, هيرمان فون هيلمهولتز, توصيفه للدماغ بمختبر الفرضيات القائم على عمليات استنتاجية إدراكية غير واعية. الدراسات الحديثة لا تنفكّ تضفي مصداقية على ذلك التوصيف. فنحن مزوّدون بعضوٍ تنبّؤي حقّاً.