في المشهد اللبناني الراهن, ثمة ما يستحق التحليل والتفسير, والعودة بالتالي إلى الاختصاصيين لفهم ظاهرة تتعلق باللبنانيين وسلوكياتهم,
فاللبناني ميسورا كان أم غير ميسور انتهى إلى قناعة بأن الماضي مضى ولن يعود. حاله حال أمواله المحتجزة في المصارف, التي لن تعود وستظل تأتيه بالقطارة وبالخسارة. أما مستقبله ومستقبل البلد فمجهول غامض, لذا يرفض التفكير بالغد أو الادخار له مادام العمل بالمثل القائل "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود" أفقده جنى عمره وغلب السواد على أيامه.
وفي المحصلة يبقى الحاضر الذي لا يملك اللبناني سواه, وبشأن ذلك قال لنفسه "بدي عيش", وقرر أنه ما عاد سيسأل على طريقة زياد الرحباني "بالنسبة لبكرا شو", لأنه وبصراحة "مش فارقة معاه".
بحسب خبراء الاقتصاد, الأمر الأكيد هو أن الاقتصاد اللبناني وبعد أزمة البلاد المصرفية والمالية في العام 2019, تحول بدرجة كبيرة إلى اقتصاد استهلاكي. وعن ذلك يقول الخبير الاقتصادي والمالي د.محمود جباعي في حديث إلى "الأنباء" إنه "تاريخيا, كان هناك توازن بين الادخار والاستهلاك لأن القاعدة الاقتصادية السليمة تقوم على أن الدخل يساوي الاستهلاك والادخار".
وأشار "إلى أن الادخارات في الماضي كانت تأخذ شكل الادخار في القطاع المصرفي بالدرجة الأولى نظرا إلى الثقة به. لكن بعد الأزمة المصرفية ولدت حالة جديدة في لبنان, بحيث أصبح الدخل يساوي بشكل كبير جدا الاستهلاك بلا ادخار أو مع ادخار بسيط في المنازل".
ويضيف جباعي: "السلوك الاقتصادي للفرد تأثر بشكل واضح, بواقع أن جنى العمر في المصارف قد ذهب وانتفت الثقة بالقطاع المصرفي, لاسيما في ظل عدم إيجاد حل جذري بعد لأزمة المودعين والأزمة المصرفية من قبل الدولة اللبنانية والجهات المعنية, وبالتالي صار الدخل بنسبة 90% يذهب مباشرة إلى الاستهلاك, وهذا ما رفع بعض الأرقام الاقتصادية في البلد, إذ يلاحظ منذ عامين حتى اليوم, وجود ارتفاع في الناتج المحلي وفي حجم الاستهلاك والنشاط الاقتصادي ونشاط القطاع الخاص".
وإذا كانت رواتب معظم اللبنانيين كافية للاستهلاك لا للادخار لكونها تدنت بنسبة كبيرة جدا, بحسب د.محمود جباعي, فإنه يحذر في الوقت نفسه "من الاتجاه إلى الاستهلاك من دون أفق مستقبلي, لأن هذا السلوك ليس سليما في الاقتصاد, والمطلوب ممن يملك قدرة على الادخار من خلال دخله, أن يخصص جزءا للادخار لا يقل عن 30% من الدخل, على ان يكون هذا الادخار من خلال الاستثمار بالأصول أو شراء العقارات أو الذهب أو القيام بمشاريع لها علاقة مثلا بقطاع السياحة والخدمات".
وإلى المقاربة الاقتصادية, ثمة مقاربة اجتماعية لسلوك اللبنانيين تحدثت عنها إلى"الأنباء" د.سوزان منعم, وهي أستاذة محاضرة وباحثة في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية.
وقالت منعم: "يجب بداية تصنيف اللبنانيين إلى فئتين تبعا لمعدل الدخل الفردي وكم يذهب منه إلى الحاجات اليومية وكم يبقى من هذا الدخل. وبهذا المعنى فإن أحدا من اللبنانيين لا يدخر اليوم إلا من ينعم بدخل مرتفع جدا".
وأضافت: "الادخار الذي كان ثقافة لدى العائلات في لبنان ولاسيما ادخار المصارف لمرحلة التقاعد, انتفى أخيرا لأن الودائع طارت وقيمة العملة الوطنية تراجعت كثيرا. من هذا المنطلق هناك اليوم من لا يقيم حسابا للمستقبل في حال المرض أو في حال كان أمام مشروع زواج أو ما شابه". وأشارت إلى أن "اللبناني بنمط حياته يعنيه الاندماج الاجتماعي والمشاركة في مناسبات ونشاطات معينة, وبالتالي أن يكون جزءا من هذا المجتمع".
الواضح أن ثقافة الادخار لدى اللبنانيين ما عادت رائجة اليوم, خصوصا أن ودائعهم التي طارت "لوعتهم وطيرت عقولهم". وإلى حين انتخاب رئيس للبلاد وقيام حكومة جديدة تضع خطة تعاف اقتصادي ومالي وتعالج أزمة الودائع وتعيد هيكلة المصارف لجذب الاستثمارات والادخارات والعودة إلى القاعدة السليمة في الاقتصاد, سيظل اللبناني يصرف ما في الجيب من دون أن ينتظر أن يأتيه ما في الغيب.