الشعور بالوحدة يمثّل تهديداً صحياً عالمياً ملحّاً. هذا ما خلصت إليه منظمة الصحة العالمية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. تهديد يعادل بآثاره على منسوب الوفيات تدخين 15 سيجارة يومياً, بحسب الجراح الأميركي العام, الدكتور فيفيك مورثي, ويفوق مخاطر السمنة والخمول البدني. هي جائحة من نوع آخر, إن جاز التعبير, لم تزدها تبعات جائحة "كوفيد-19" سوى حدّة.
بإزاء هذا الواقع, أنشأت المنظمة لجنة دولية معنية بقيادة مورثي نفسه ومبعوثة الإتحاد الأفريقي للشباب, تشيدو مبيمبا. اللجنة الهادفة لتوفير الموارد اللازمة باعتبار التهديد أولوية عالمية للصحة العامة, أمامها عمل شاق في الواقع. فأضرار الوحدة المزمنة متنوّعة للغاية. من العبث بانتظام جدول نوم الإنسان وتقطّعه, إلى إنهاك جهازه المناعي وتسريع تدهوره المعرفي, وصولاً إلى تكريس الانطواء وأنماط من التفكير السلبي كما احتمال التسبّب بالوفاة في الحالات القصوى.
وهذه بعض الأرقام, وفق مورثي: يعاني ربع البالغين من العزلة الاجتماعية كمعدّل على مستوى مختلف مناطق العالم. وعند هؤلاء, ترتبط الوحدة بزيادة خطر الإصابة بالخرف بنسبة 50% وبمرض الشريان التاجي أو السكتة الدماغية بنسبة 30%. في حين يعاني 5% إلى 15% من المراهقين من آثارها, على الأقلّ. ولنا أن نتخيّل هنا الانعكاسات السلبية على تحصيل هؤلاء العلمي وأدائهم الوظيفي اللاحق.
بالحديث عن المراهقين, أظهرت دراسة نُشرت في مجلة BMC Psychiatryأواخر العام الماضي أن نسبة من يشعرون بالوحدة منهم – لا سيّما الفتيات – زادت منذ تسعينات القرن الماضي. وبيّنت استطلاعات, شارك فيها بين 8000 و9000 مراهق, أن الأعداد تضاعفت في الفترة 2017-2019 مقارنة مع الفترة 1995-1997.
عزت نايان ديباك بارليكار, المؤلفة الرئيسية للدراسة من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا, سبب الزيادة أساساً إلى ارتفاع معدّلات استخدام الهواتف المحمولة واشتداد حدّة التناقضات الاجتماعية. وهذا حملها للاعتقاد بضرورة مقاربة الوحدة كتشخيص طبّي قائم بذاته يرخي بظلاله على إدراك المرء وتصوُّره للواقع.
وليس في الأمر مبالغة. فقد أتت دراسات, أوردتها سابقاً مجلة Scientific Reports, على تحديد اختلافات في مناطق الدماغ ذات الصلة. إذ لدى المعانين الشباب من الوحدة, تحتوي المناطق المرتبطة بالإدراك الاجتماعي والتعاطف على مادة بيضاء – بما هي شبكة من الألياف العصبية مهمّتها تبادُل المعلومات والتواصل الدماغي – أقلّ كثافة. بينما تكون مناطقه الأخرى المتّصلة بالمعالجة المعرفية والتنظيم العاطفي أصغر حجماً لدى كبار السنّ منهم.
ووجدت دراسة ظهرت في مجلة Psychological Science العام الماضي أن أدمغة المعانين من الوحدة تعالِج العالَم بغرابة وفرادة. فحيث طلب الباحثون من 66 مشاركاً مشاهدة سلسلة مقاطع فيديو أثناء تواجدهم داخل ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي, اكتشفوا ما يلي: تشابُه في النشاط العصبي لدى غير المعانين منها؛ واختلاف في النشاط الدماغي بين المعانين أنفسهم وبينهم وبين غير المعانين.
علماً بأن الاختلافات الهيكلية والوظيفية الدماغية المرصودة إنما تعكس تجارب بالغين مصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه أبلغوا عن شعور بالعزلة بسبب اختلافهم المتصوَّر مع الآخرين. وهذا يضاف إلى نتائج أخرى أظهرت ضبابية في التمييز بين أشخاص حقيقيين وشخصيات خيالية من منظار الأكثر شعوراً بالوحدة من الناس.
فهل هي الوحدة التي تُولّد طريقة التفكير هذه أم العكس؟ الاحتمالان واردان, بحسب العلماء. والحسم ليس سهلاً إذا ما أخذنا بالاعتبار وقْعها البيولوجي. فالشعور بها يشكّل استجابة للتوتّر تضع الجسم في حالة تأهّب قصوى. ونتحدّث هنا, كمثال, عن تذبذُب مستوى هرمون التوتّر (الكورتيزول) وزيادة إنتاج هرمون سلوكيات التهدئة الذاتية (الدوبامين).
من ناحيتها, وضعت الأستاذة المشاركة في الطب النفسي بجامعة كاليفورنيا – سان دييغو, إلين لي, مراجعة منهجية لـ41 دراسة, نُشرت في مجلة Neuropsychopharmacology عام 2021. شملت الدراسات, التي تناولت البيولوجيا العصبية للوحدة,16771 مشاركاً بالغاً. وبالفعل, جرى لدى هؤلاء اكتشاف بنية (مصحوبة أحياناً بنشاط غير طبيعي) في قشرة الفص الجبهي التي تتوسط التنظيم العاطفي والتحكّم المثبط, وفي القشرة الجزيرية التي تلعب دوراً على صعيد الألم العاطفي والوعي الذاتي.
فكيف تتأثّر الصحة العقلية للفرد بكلّ ذلك؟ نعود إلى الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا, حيث انتهت دراسة أوردتها العام الماضي مجلة BJPsych Open إلى إظهار رابط سببيّ في هذا السياق. فوفق الباحثين, يزيد الشعور بالوحدة من خطر الإصابة بالذهان, والاضطرابات ثنائية القطب, والاكتئاب الشديد. كذلك, لدى تقييم تطوُّر الشعور ذاك بين مرحلتَي المراهقة والبلوغ, تبيّن أن الذين يعانون من اضطرابات ذهانية وثنائية القطب هم أكثر عرضة له ما بعد المراهقة.
التركيز على المراهقة ضروري كونها مرحلة تأسيسية لشخصية الفرد الواعية ولتفاعله مع الذات والمحيط. وهذه نقطة محورية تحيلنا إلى حصيلة دراسة قادتها مستشفى جامعة "بون" الألمانية ونُشرت في مجلة Psychotherapy and Psychosomatics قبل أيام: لهرمون الحب, الأوكسيتوسين, دور محتمل في تعزيز الأواصر وتقليل مشاعر الوحدة الحادة.
تمّ إعطاء 78 امرأة ورجلاً شعروا بالوحدة الأوكسيتوسين على شكل رذاذ أنفي. وخضع المشاركون لجلسات علاج جماعي استُكملت بتناول الهرمون, بينما تلقّت مجموعة ضابطة دواء وهمياً. فأوجز الباحثون النتائج بارتباط التدخّل النفسي بانخفاض إدراك التوتّر وتراجُع الشعور بالوحدة في جميع مجموعات العلاج. كما أبلغ المشاركون الذين تلقّوا الهرمون عن انخفاض الشعور الحاد ذاك بعد الجلسات, بينما حسّن تناوُله من الترابط الإيجابي بينهم.
شدّد الفريق على أنه لا ينبغي النظر إلى الأوكسيتوسين كعلاج سحري. لكن النتائج لا تأتي من فراغ. فعالمة الأعصاب ومؤلفة كتاب "Wired for Love", ستيفاني كاسيوبو, تذهب إلى القول إن الحب يبقى أحد أهم خطوط دفاعنا بوجه ويلات الوحدة المزمنة. أما مبيمبا, فذكّرتنا إبان تعيينها على رأس اللجنة المنبثقة عن منظمة الصحة العالمية بأن العزلة الاجتماعية لا تعرف عمراً أو حدوداً. وهكذا, يُستحسن بقدرتنا كبشر على الحب, مكافحة للوحدة وسواها, ألّا تحدّها حدود هي الأخرى.