"الضغوط على موارد الصحة تتزايد عالمياً… الإنسان الفيزيولوجي الافتراضي سيشكّل مختبراً قائماً على البرمجيات للتجريب والعلاج. وهذا سيوفّر الكثير من الوقت والمال ويحقّق نتائج علاجية متفوّقة إلى حد كبير". كلامٌ للدكتور كيث ماكورماك من جامعة "شيفيلد" البريطانية قبل عشر سنوات. إنها المحاكاة الحوسبية لجسم الإنسان للنظر في التأثيرات المحتملة للأدوية والعلاجات على المرضى. ذات يوم, كان كلام من هذا القبيل أقرب إلى الخيال. لكن طفرة التكنولوجيا, خصوصاً بشقّها "الذكي الاصطناعي", آخذة في محو المسافات بين الخيال والحقيقة.
دعْم المفوضية الأوروبية للبرنامج البشري الفيزيولوجي الافتراضي سَبَق كلام ماكورماك بسنوات. أما الهدف من مشروع الإنسان الافتراضي, فكان – ولا يزال – تمكين الأطباء من نمذجة الوظائف الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية الحيوية للجسم البشري ومحاكاتها كنظام متكامل. وقد نشرت مجلّةInterface Focus , الصادرة عن الجمعية الملكية البريطانية, عدداً بعنوان "الإنسان الفيزيولوجي الافتراضي" سنة 2017. وأسهبت في تشريح خصائص ما أُطلق عليه "التوأم الرقمي": ذلك النموذج الافتراضي لنظام حقيقي يحاكي كلّ شيء من أبسط جهاز طبّي إلى أكثر المنظومات الاستشفائية تكاملاً.
مسرح عمليات النموذج المذكور هو الآليات الحاصلة على مستوى الأنسجة والأعضاء والخلايا, بمعزل عن استخدام حيوانات المختبر, حسبما علّل منظّم العدد, أستاذ العلوم والهندسة الحاسوبية في جامعة أمستردام, ألفونس هوكسترا. فلبّ فكرة النمذجة كان إجراء تجارب السيليكو السريرية, أي المحاكاة الحوسبية التقييمية, التنظيمية والتطويرية لمُنتج أو إجراء طبّي معيّن.
أميركياً أيضاً, العمل جارٍ على صعيد إدارة الغذاء والدواء لإنتاج أكثر من نصف بيانات التجارب السريرية مستقبَلاً من خلال عمليات المحاكاة الحوسبية. ثم هناك مبادرة الثنائي الشهير, بريسيلا تشان ومارك زوكربيرغ, الناشطة منذ 2016 على خطّ المساعدة في تشكيل بنية حوسبية تحتية لسبر أغوار "الخلية الافتراضية". فمن شأن الأخيرة, بحسب السيّد والسيّدة زوكربيرغ, محاكاة خصائص أيّ من الخلايا البشرية وفهْم تفاعلاتها بإزاء محفّزات كالاستجابة المناعية للجسم.
بدورها, حلّت جائحة "كوفيد-19" لترفع من منسوب النقاش حول محورية الخوارزميات في تحقيق الأهداف الطبّية المعقّدة, وأوّلها: التشخيص الدقيق لحالات المرض؛ وتطوير أدوات وقائية أكثر فعالية وأقلّ خطورة وكلفة. الجائحة سرّعت من توقعات حلول أجهزة الكمبيوتر محلّ الأطباء. إلّا أن دخول فكرة الإنسان الفيزيولوجي الافتراضي إلى المضمار نقلت الحديث إلى مكان آخر: حلول الأجهزة تلك محلّ المرضى أيضاً.
يكفي تناوُل التشكيك المتنامي بنجاعة اللقاحات ومخاطرها لإدراك أبرز دوافع النقلة تلك. فباختصار, تبدأ عملية النمذجة بضخّ البيانات التشريحية لعضو حقيقي في نموذج رياضي معقّد للآليات المتحكّمة بوظيفة الأخير. ثم تقوم الخوارزميات بمعالجة المعادلات الناتجة وتوليد عضو افتراضي شبيه بالحقيقي شكلاً ومضموناً.
لكن تعزيز القدرة التنبؤية للخوارزميات وموثوقيّتها يرتكز على ضرورتين اثنتين: إنشاء قواعد بيانات شاملة وعالية الجودة والاعتمادية؛ وإدخال تعديلات بيولوجية الطابع على أساليب الذكاء الاصطناعي المتاحة أساساً لأغراض غير طبّية. وهذا مثال. فقد جاءت نتائج دراسة لجامعة "ليدز" البريطانية و"لوفين" البلجيكية, أجريت سنة 2021 على مرضى افتراضيين, لتتّسم بفعالية تضاهي التجارب السريرية التقليدية.
استهدفت الدراسة تقييم ومقارنة أداء جهاز "محوّل التدفّق" افتراضياً وواقعياً. والأخير يُستخدَم بتقنية القسطرة لعلاج تمدُّد الأوعية الدموية في الدماغ. فبمجرّد تثبيته, يعمل الجهاز على توجيه الدم على امتداد الأوعية مقلّلاً من زخم تدفّقه ما يطلق عملية تخثُّر تلجم التمدّد على مستوى الدورة الدموية, تفادياً لمضاعفات مثل النزيف والسكتة الدماغية.
شكّل الباحثون مجموعة من 82 حالة افتراضية. واعتمدوا على بيانات سريرية لمرضى حقيقيين إيجاداً لأوجه شبه بينهم وبين أولئك الافتراضيين المجهولين لناحية العمر والجنس وخصائص تمدُّد الأوعية الدموية. ثم أنشأوا نموذجاً حسابياً لتحليل تأثير الجهاز على تدفّق الدم لدى الشريحة الافتراضية. فجاءت توقعات نسب نجاح العلاج بالجهاز على الشكل التالي: 82.9% من المرضى الافتراضيين في التجربة المحاكية؛ و79.4%, كمعدّل, في التجارب الثلاث التقليدية.
شِبه التطابق في النسب كان لافتاً للغاية. لكن الأهمّ, بحسب الفريق, هو عامل الوقت. ففي حين قد تستغرق التجارب التقليدية بين خمس وثماني سنوات من التصميم إلى الاكتمال, يمكن لتلك المحاكية أن تُنجَز في أقلّ من ستة أشهر في بعض الأحيان. وإذ نتكلّم عن الوقت, ماذا لو أخرجت ساعاتنا الذكية من جعبتها توائم رقميّة تحيلها خزّانات للبيانات في معرض محاكاة افتراضية للجسم البشري؟ احتمال مذهل, هو الآخر, بالتأكيد.
تمضي أستاذة العلوم الطبّية الحيوية في كليّة "برات" للهندسة بجامعة "ديوك", أماندا راندلز, جلّ وقتها لبلورة تلك المحاكاة الابتكارية. كيف؟ يمكن لأجهزة اللياقة البدنية القياسية تتبُّع نبضات قلب الإنسان أثناء ممارسته لنشاطه اليومي. فلو جازت أيضاً متابعة التغييرات الحاصلة على مستوى تدفُّق الدم في الوقت الفعلي, قد يطوّر الأطباء انتقالاً من "الرعاية التفاعلية إلى تلك الاستباقية", بحسب قولها.
طبعاً, يطرح الأمر مخاوف مرتبطة بالخصوصية على طاولة البحث. كما أن هناك عقبات تقنية سببها التحميل الزائد للبيانات. نأخذ, مثلاً, عدد نبضات القلب اليومية (البالغ مئة ألف نبضة) لنعي الكمّ الهائل من البيانات المستهدَفة. لكن أحد الحلول, وفق الفريق, هو استنباط آلية لالتقاط مؤشّرات من لحظات معيّنة وتعميمها تطبيقياً على سيناريوهات أكبر حجماً.
مجموعة التطبيقات العملية التي قد تبصر النور خلال خمس إلى سبع سنوات متنوّعة, برأي راندلز. ويتصدّر القائمة نظام الدورة الدموية وآلية عمل الدماغ وتصلُّب الشرايين. أما فكّ شيفرة تحرُّك الخلايا السرطانية وانتشارها عبر مجرى الدم وسهولة تأقلمها – تشكيلاً لأورام جديدة – في أنحاء معيّنة من الجسم, فمشروع ثورة طبّية قائم بذاته.
على أي حال, كافأت جمعية آلات الحوسبة الأميركية راندلز على عملها الشهر الماضي بمنحها جائزة بقيمة 250 ألف دولار. بيد أن "الجوائز" التي تبشّر بها توائمنا الرقميّة في السنوات المقبلة قد لا تُقدَّر بثمن. تماماً كما توقّع الدكتور ماكورماك.