كتب روني عبد النور_
يقول الشاعر الأرجنتيني أنطونيو بورشيا: "يعيش المرء على أمل أن يصبح ذكرى". وفي الأثناء يمرّ الوقت وتدور الأحداث فتُقلَّب الدفاتر – بِصُورها القديمة والجديدة – على مسرح إنتاج تلك "الذكرى". مسرح خشبته العقل وأداته الدماغ, تشكيلاً للذكريات واستعادةً لها وتفاعُلاً بينها وبين الوقت. والألغاز كثيرة.
بالوقت نبدأ. فقد بيّنت دراسة حديثة في مجلة Nature Human Behaviour أن الطريقة التي تبدو عليها الصور الفوتوغرافية قد تغيّر من نمط إدراكنا له. وهو – أي الوقت – يؤثّر بدوره على تَذكُّرنا اللاحق للصور وفق إدراك المحدّق بها لسرعة مروره أو بطئه.
طلب باحثون من جامعة جورج مايسون الأميركية من 170 شخصاً مشاهدة صور مختلفة عُرضت على شاشة لفترات وجيزة للغاية. وأثناء المشاهدة, كان على المشاركين الضغط على زرّ للإشارة إلى شعورهم إما بطول مدّة المشاهدة أو قصرها. فتكشّف أن المشاهد الأكبر حجماً والصور التي ترسخ في الذاكرة إنما تخدع الدماغ بمشاهدة أطول من الواقع. أما تلك المبعثرة, فبدا أنها تجعل الوقت ينكمش.
اقترح الباحثون أن لتأثيرات التمدّد الزمني للصور الراسخة في الذهن يداً في مساعدة النظام البصري على معالجة المعلومات. وإذ استخدموا شبكة عصبية اصطناعية لنمذجة ذاك النظام, تبيّن أن الصور الأكثر قابلية للتذكُّر تجري معالجتها بوتيرة أسرع, وأن الزيادة في سرعة المعالجة تنبئ بإطالة وقت المشاهدة المُدرَك وزيادة دقته.
لكن ذلك لا ينفي أثر العنصر الشخصي البحت في معرض جعل صورة ما لا تُنسى, إذ إن أجزاء الدماغ التي تعالِج الوقت إنما تنظّم العواطف أيضاً. وهذا يحيلنا إلى دراسة نُشرت نتائجها في مجلة Neuropsychologia خلصت إلى أن الاطلاع على صور مثيرة للذكريات السلبية قد تنشّط مناطق مختلفة في الدماغ وتُقوّي الذاكرة.
فقد أظهرت تجربة لجامعتَي بورنموث وسوانزي البريطانيّتين أن المشاركين تذكّروا المعلومات بشكل أفضل بعد رؤية صور كتلك, مقارنة بأخرى محايدة. لا بل لفتت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي إلى أنماط نشاط دماغي فريدة ارتبطت بالصور سلبية الإثارة في مناطق مرتبطة بدورها بأداء الذاكرة.
صحّت النتائج بالنسبة لاختبارات الذاكرة الدلالية (القدرة على تذكُّر الحقائق) وتلك العرضية (مدى القدرة على تذكُّر تجارب محدّدة). ففي سلسلة اختبارات, عُرضت على شاشةٍ سلسلةٌ من الصور إما سلبية الإثارة, كمشهد من عملية جراحية كبرى, أو المحايدة, كصورة حديقة. وبعد المشاهدة لأربع ثوانٍ, طُرح على المشاركين سؤالان: أحدهما حول الصورة نفسها لاختبار ذاكرتهم العرضية؛ والآخر حول المعرفة العامة لتقييم ذاكرتهم الدلالية.
لمّا كان المشاركون بصدد استرجاع ذكرياتهم إبان مشاهدة الصور, أظهر المسح نشاطاً أكبر في الفص الجبهي للدماغ المعني باتّخاذ القرارات, وفي الجزء الخلفي منه المرتبط بالرؤية. ووفق الفريق, تشير النتائج إلى مدى ترابُط الوظائف الدماغية. فالأمر لا يتعلّق بالتركيز على نظام الذاكرة فحسب, إنما بتفاعل النظام العاطفي أيضاً. وهكذا, ربما يمسي استهداف كيفية إدراكنا للعواطف أحد عوامل تحسين الذاكرة طويلة المدى.
لكن ماذا عن تقسيم الدماغ للتجارب إلى أجزاء لغرض الاسترجاع اللاحق. تقول دراسة منشورة في مجلة Nature Neuroscience, لباحثين في مركز Cedars-Sinai الطبّي الأميركي, إن أحد أسباب عجزنا عن دعم من يعانون من اضطراب الذاكرة هو عدم إلمامنا بكيفية عمل نظام الأخيرة. بيد أن تتبُّع 19 مريضاً يعانون من الصرع المقاوِم للأدوية أتاح للفريق تحديد كيفية أداء الخلايا العصبية خلال عملية التجزئة تلك.
جرى إقحام أقطاب كهربائية في أدمغة المرضى لرصْد مركز نوبات الصرع وتسجيل نشاط الخلايا العصبية الفردية. وسُمح لهم بمشاهدة مقاطع مصوّرة تتضمن حدوداً معرفية تساهم في تجزئة التجارب وهيكلة الذاكرة. فاكتشف الباحثون أن نوعين من الخلايا العصبية – الخلايا الحدودية وخلايا الحدث – إنما زادت من منسوب نشاطها. واعتبروا أن الخلايا تلك تحيل في ذروة نشاطها الدماغ إلى طيّ صفحة ذاكرة وفتح أخرى.
شبّه الفريق الاستجابة الحدودية بإنشاء مجلّد جديد على جهاز الكمبيوتر. وعرضوا على المشاركين سلسلة صور ثابتة أتبعوها بسؤال حول رؤيتهم لها في المقاطع المصوّرة من عدمها. فكان المشاركون أكثر عرضة لتذكّر الصور المرتبطة بحدود معرفية معيّنة. كما أظهر الباحثون للمشاركين أزواجاً من الصور من المقاطع المصوّرة ليسألوهم بعدها عن تلك التي ظهرت أوّلاً. فواجه هؤلاء صعوبة في تذكّر الترتيب الصحيح للصور التي ظهرت على جوانب متقابلة من الحدود المعرفية.
لماذا؟ ربما بسبب تقسيم الدماغ لتلك الصور إلى مجلّدات ذاكرة منفصلة. لكن ثمة المزيد هنا. فالفريق يرمي إلى اختبار قدرة الخلايا الحدودية وخلايا الحدث على تنشيط خلايا الدوبامين عندما تنشط هي الأخرى كعلاج محتمل لتقوية تكوين الذاكرة. وبالحديث عن الدوبامين, في عودة إلى عامل الوقت, نذهب إلى جامعة أنقرة. فقد بيّنت دراسة هناك أن المادة المذكورة, ومسبّبها التوتّر, تؤثّر على إدراك الدماغ للوقت. إذ في حين يعطّل التوتّر قدرة التحكّم التنفيذي للدماغ في ذلك الإدراك, بدا – عبر فحص مثيلة الحمض النووي من عيّنات لعاب 44 فرداً سليماً – أن أصحاب المستويات المرتفعة من المادة يدركون الأخير فعلاً بشكل أكثر دقة.
وفي مطابقة للنتائج, جرى عرض مجموعة صور على 45 بالغاً سليماً ولّدت لديهم ضغوطاً اجتماعية. وبواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي, تبيّن أن الضغط الاجتماعي تسبّب بتغيّرات دماغية على ذلك الصعيد. فرغم ملاحظة الناس, في الأحوال العادية, لمرور الوقت بوتيرة أسرع من الواقع, يصبح إدراكهم له أكثر دقة لدى شعورهم بالتوتّر, ما يخلق انخفاضاً في نشاط مناطق دماغية معيّنة ينتهي بما يشبه وقع الحركة البطيئة في الأفلام.
ثمة في مختلف التجارب المذكورة ما يفتح طاقات أمل واسعة لفهم ألغاز كثيرة, بحسب العلماء. والاضطرابات التي تبدأ بالاكتئاب والفصام ولا تنتهي بمرضَي باركنسون والزهايمر على رأس القائمة. فلنَقُل أملاً علميّاً معطوفاً على نظيره الشاعريّ في كلام بورشيا.