كتب روني عبد النور_
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, غالباً ما لجأ علماء الجريمة إلى قياس أحجام جماجم السجناء وتحليل بناهم العظمية. الطبيب الإيطالي سيزار لومبروزو كان مِن أوائل مَن ربطوا عِلم الأحياء بعِلم الجريمة مركّزاً على فيزيولوجية المرتكبين. وقد خلص في كتابه الصادر عام 1876 بعنوان "الرجل الإجرامي" إلى أن البعض إنما يولدون مع ميول إجرامية.
أعمال لومبروزو, التي فقدت مصداقيّتها إذ استُخدمت منطلقاً لوصم مجموعات سكانية بأكملها بالانحطاط, تركت أثراً في أوساط علماء تحسين النسل أوائل القرن الماضي. لكن, في خضمّ التقدّم الذي شهده عِلم الوراثة وتقنيات تصوير الدماغ في العقود الأخيرة, أعاد العلماء صبّ تركيزهم على هذا الحقل. وكان أبرزهم, أدريان رين, الأستاذ المحاضر في جامعة بنسلفانيا, كأوّل من أجرى دراسة تصوير أدمغة مجرمين ومرضى نفسيّين, مسلّطاً الضوء على دور عِلم الأحياء في هذا المضمار. ضوء أعاد النظر في كيفية التعامل مع المجرمين, لجماً وإعادة تأهيل لهم.
أشارت دراسة لمعهد كارولينسكا السويدي وجامعة هلسنكي الفنلندي, نُشرت سنة 2015 في مجلة JAMA Psychiatry, إلى أن المراهقين الذين يعانون من انخفاض معدل ضربات القلب قد يكونون أكثر عرضة لارتكاب جرائم عند البلوغ. وشملت الدراسة 710 آلاف مشارك وُلدوا بين عامي 1958 و1991 جرت متابعتهم طيلة 36 عاماً. وقسّم الباحثون الرجال إلى مجموعات تبعاً لمعدل ضربات القلب. فوجدوا أن أعضاء المجموعة التي أظهرت أدنى معدلات أثناء الراحة (60 نبضة/الدقيقة وما دون) كانوا أكثر عرضة بنسبة 39% للإدانة بارتكاب جرائم عنف على مدى العقود القليلة اللاحقة, مقارنة بأعضاء المجموعة ذات أعلى معدلات (83 نبضة/الدقيقة وما فوق).
لم تتغيّر النتائج بعد أخْذ الباحثين في الاعتبار لعوامل محتلمة الأثر على معدل ضربات القلب (ومنها الطول والوزن ومستوى اللياقة البدنية للقلب), وأخرى قد ترفع خطر ارتكاب الفرد لجرائم عنيفة (كالوضعين الاجتماعي والاقتصادي). وبحسب الفريق, قد يكون انخفاض معدل ضربات القلب أثناء الراحة مؤشراً على انخفاض مزمن في الإثارة الفيزيولوجية, ما قد يدفع الأفراد باتّجاه تجارب محفّزة. كذلك, قد يدلّ الانخفاض على ضعف الاستجابات النفسية للمواقف التي عادةً ما تنتج التوتّر أو القلق لدى الآخرين, ما قد يفضي إلى سلوك أقلّ توجّساً من المخاطر.
البحث تناول الرجال حصراً. لكن دراسة مماثلة ظهرت الشهر الماضي في مجلة PLOS One لتكشف عن ارتباط مشابه لدى النساء. إذ تابع باحثون أميركيون وسويديون وفنلنديون السجلات الجنائية لـ12499 امرأة سويدية التحقن بالجيش في عمر يناهز 18 عاماً. سجّلت الاختبارات البدنية معدلات ضربات القلب وضغط الدم لديهن. ثم جرى تتبُّع تعرضهن لإدانات جنائية أو إصابات غير مقصودة طيلة 40 عاماً. فتبيّن أن من أظهرن معدلات ضربات قلب منخفضة أثناء الراحة كنّ أكثر عرضة بقليل للإدانة بجرائم غير عنيفة.
ولاحظ الفريق أن النساء أكثر ميلاً للتعرض للإصابات غير المقصودة. وقد يكمن الرابط في أن انخفاض نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي – الناظم لوظائف الجسم التلقائية – ربما يجعل الناس أكثر عرضة للبحث عن الإثارة والمخاطرة. وتوصّلوا إلى أن صاحبات أدنى معدلات ضربات قلب أثناء الراحة (أقل من 69 نبضة/الدقيقة) كنّ أكثر عرضة بنسبة 35% للإدانة بارتكاب جرائم مقارنة باللواتي لديهن معدلات تفوق 83 نبضة/الدقيقة.
بدا تقارُب النتائج بين الرجال والنساء جليّاً. لكن عِلم الجريمة أثبت أيضاً أن الرجال أكثر ارتكاباً للجرائم من النساء. لماذا؟ في دراسة لجامعة بنسلفانيا, أوردتها مجلة "عِلم الجريمة" سنة 2017, جرى تناوُل الفهم غير الكامل للأسباب من خلال فحص الاختلافات بين الجنسين في الأداء البيولوجي والسلوك. ودقّق الباحثون ببيانات من دراسة طولية أجريت على 894 مشاركاً وقاست معدلات ضربات القلب لدى المشاركين في سنّ 11 عاماً. فوجدوا أن المعدلات تلك تفسّر جزئياً الاختلافات بين الجنسين في ارتكاب الجرائم العنيفة وغير العنيفة المقيّمة في سنّ 23 عاماً.
كانت تأثيرات الوساطة كبيرة بعد التحكم بمؤشر كتلة الجسم والعِرق والمشاكل الاجتماعية ومستوى النشاط. فبينما مثّل معدل ضربات القلب أثناء الراحة بين 5 و17% من الفوارق بين الجنسين على صعيد الجريمة, أمكن بالفعل رصْد الاختلافات ذات الصلة في ذلك المعدل بين الأطفال الذكور والإناث بدءاً من عمر 17 شهراً.
بيولوجيّاً أيضاً, قدّم بحث نشرته مجلة "الهرمونات والسلوك" سنة 2022, دليلاً على ارتباط المستويات المرتفعة لهرمونَي التستوستيرون (المشجّع على السعي خلْف المكانة الاجتماعية والهيمنة) والكورتيزول (المساعد في تنظيم استجابة الأجسام للتوتّر والتهديدات) بزيادة خطر السلوك الإجرامي. ورمى الفريق البحثي إلى فهم أفضل لتأثيرات الهرمونين المذكورَين على النشاط الإجرامي, مجندّين عيّنة من الطلاب الجامعيين لذلك الغرض.
لتقييم مستويات الهرمونين, جمع الباحثون عيّنتين من لعاب كل مشارك. فجرى أخذ العيّنة الأولى بُعيد وصول المشارك إلى المختبر, والثانية بعد حوالى 15 دقيقة من إكمال مهمة تحفيز التوتّر. وأثناء المهمة, طُلب من المشاركين إعداد خطاب قصير يفنّد أخطاءهم ونقاط ضعفهم. فوجد الفريق أن الذين سجّلوا نسبة عالية نسبياً من الهرمونين كانوا أكثر عرضة للانخراط في جرائم متهورة وعنيفة. أما من سجّلوا نسبة عالية من هرمون التستوستيرون, فكانوا أكثر عرضة لارتكاب جرائم مدرّة للدخل, إنما في حالات انخفاض مستوى الكورتيزول حصراً.
طبعاً, لا يمكن التغاضي عن البُعدين الاجتماعي والبيئي للسلوك البشري العنيف. لكن الأبحاث بيولوجية الطابع تثير, عن حقّ, أسئلة أخلاقية وقانونية حيال ضرورة ملاحظة أنظمة العدالة الجنائية لإمكانية تأثير العوامل البيولوجية على سلوكنا. لقد أثبتت أبحاث سابقة إمكانية مقارعتنا في ظروف محدّدة للخوارزميات – مثل أداة تقييم المخاطر COMPAS – على صعيد توقُّع إعادة مجرم ما ارتكاب جريمة جنائية أو أكثر. وهذا إنما يزيد من منسوب المسؤولية الملقاة على عاتقنا, أفراداً ونظماً, لفهم أفضل لقدرات تركيبتنا البيولوجية وتبعاتها المتشعّبة.