كتب روني عبد النور_
اقتحام الرقمنة لحياتنا اليومية يتمدّد. فهيمنتها على مختلف السياقات, أكانت شخصية أو مهنية, باتت شبه مطلقة. وهذا لا ينفكّ يستدعي منذ سنوات سؤالاً ملحّاً: هل تمرّ الكتابة اليدوية بطور الاندثار؟ ليس تماماً.
مع بداية العام الدراسي الحالي, قرّرت الحكومة السويدية إعادة صبّ التركيز على الكتب المطبوعة وحثّ الطلّاب على ممارسة الكتابة اليدوية. قرارٌ أعقب تساؤلات حول ما إذا كان النهج الرقمي المفرط المتّبع على صعيد التعليم هناك أدى إلى تراجُع المهارات الأساسية لدى الطلّاب في السنوات الأخيرة.
بالطبع, قد يكون للتراجع أسباب أخرى, ليس أقلّها آثار جائحة "كوفيد-19" وأعداد المهاجرين الآخذة في الازدياد, بحسب الخبراء. لكن الإفراط في استخدام الشاشات أثناء الحصص الدراسية لا يجب التغاضي عنه كمسبّب رئيس لتخلّف الطلّاب في المواد الأساسية, كما يضيف هؤلاء. وما يبدأ مع الطلّاب يتفشّى في المجتمع.
لأنصار النقلة التكنولوجية منطلقاتهم. فهؤلاء يتحدّثون عن فوائد "رقمية" متعدّدة: من رفع مستوى الدقة لدى المستخدِم وتقليل الضغط والأخطاء, إلى تعزيز التركيز والإنتاجية وعلامات الثقة بالنفس. تقول آن تروبيك, مؤلفة كتاب "تاريخ الكتابة اليدوية ومستقبلها غير المؤكّد", إن دروس الكتابة قد تسهم في تطوير مهارة "التلقائية" – أي إتقان المرء لمهمة ما وإنجازها بلا كثير تفكير. لكنها تعتقد أن استخدام لوحات المفاتيح يسرّع في اكتساب تلك المهارة في سنّ مبكرة, مقارنةً بالكتابة اليدوية, ما يمنح الأطفال متّسعاً من الوقت لانتقاء الكلمات والجمل. لكن ثمة زوايا أكثر تشابكاً للمقارنة.
في دراسة لجامعة إنديانا سنة 2010, أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي أن الكتابة اليدوية ترفع منسوب النشاط العصبي في أجزاء معيّنة من الدماغ, مثلها في ذلك مثل ممارسة التأمل. كما أن فوائدها تشمل الحفاظ على جودة المادة الرمادية في الدماغ والتأثير إيجاباً على طريقة التفكير وإدامة الذاكرة العاملة. وفي سياق متّصل, وجدت دراسة لجامعة واشنطن سنة 2016 أنه بالرغم من بعض سمات التداخل بين الكتابة اليدوية وتلك الرقمية, إلّا أن الأسلوبين يستخدمان وظائف دماغية مختلفة. مثلاً, تمثّل الحاجة إلى التحكّم الدقيق في حركة الأصابع, تنبّهاً وتفكيراً, خاصية مركزية للأولى دون الثانية.
قبلها, سنة 2012, أدرج مقال في مجلة Trends in Neuroscience and Education, خلاصات باحثين حيال إمكانية مساعدة الكتابة اليدوية للأطفال على تعلّم حروف الأبجدية. ففي إطار الدراسة, جرى عرض رسائل مختلفة على الأطفال أثناء تعريضهم لماسح التصوير بالرنين المغناطيسي. وكشفت عمليات المسح أن مشاهدة الأطفال للحروف التي تمّ التدرّب عليها يدوياً نشّطت أجزاء من الدماغ لم تفعّلها مشاهدة الحروف التي جرى التدرّب عليها رقمياً.
على المستوى النفسي, استنتجت دراسة أجريت عام 2017 وعرضتها مجلة Frontiers in Psychology أن الكتابة اليدوية يمكن أن تعزّز "الترميز العميق" بطريقة يعجز عنها النقر على الألواح. وقد لاحظ باحثون في وقت سابق أن الطلّاب الذين يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المحمولة يميلون إلى نقل شرْح المدرّسين كلمة بكلمة, في حين أن أولئك الذين يدوّنون الملاحظات يدوياً كانوا أكثر عرضة للاستماع والتحليل بحثاً عن معالجة المعلومات وإعادة صياغتها على طريقتهم.
كذلك, قام باحثون نرويجيون بداية العام الجاري بجمع بيانات تخطيط كهربية الدماغ – لقياس النشاط الكهربائي في الدماغ باستخدام 256 مستشعراً موضوعاً فوق الرأس – لـ36 طالباً جامعياً طُلب منهم تكراراً إما كتابة كلمات ظهرت على شاشة أمامهم أو نقرها رقمياً. وبيّنت التجربة ازدياد الاتصال بين مناطق الدماغ المختلفة وتنشيط الحواس لدى الكتابة يدوياً. وهذا, بحسب الفريق, يفسّر أيضاً سبب مواجهة الأطفال (ممّن تعلّموا الكتابة والقراءة على الأجهزة اللوحية) صعوبة في التمييز بين الحروف المتقاربة شكلاً.
يسلّط مجمل النتائج الضوء على أهمية الموازنة بين المواظبة على تعليم الكتابة اليدوية ومواكبة الطفرة الرقمية. كيف لا وقد يأتي يومٌ يتحقّق فيه دمجٌ تكاملي بين الأسلوبين. يومٌ نتخيّل فيه الكتابة اليدوية – بدل ممارستها – بمساعدة برامج الذكاء الاصطناعي. فسنة 2021, توصّلت دراسة في مجلة Nature إلى تحديد قدرة رجل مصاب بشلل أسفل العنق, من خلال استخدام أجهزة استشعار إلكترونية متّصلة بدماغه, على ترجمة خط يده العقلي إلى كلمات بسرعات مماثلة للنقر على شاشة الهاتف الذكي.
فقد اكتشف العلماء أن استخدام "الكتابة الذهنية", عبر تزويد الرجل بواجهة فكّ رموزٍ دماغية حاسوبية, يولّد ما يصل إلى 90 حرفاً في الدقيقة بما يلامس سرعة كتابة أشخاص أصحّاء لرسائل نصّية على الهاتف الذكي – 115 حرفاً في الدقيقة. والتجربة ببساطة مرادفة لتحويل الأفكار إلى أفعال بواسطة تفاعُل الدماغ والآلة لمساعدة الأشخاص على الحركة والتحدّث. علماً بأن الباحثين عازمون على تبسيط النظام مستقبَلاً ليصبح عملياً أكثر وأسرع في تعليم الأفراد أسلوب الكتابة اليدوية.
هذه المتغيّرات توصلنا إلى نتيجة محدّدة. التكنولوجيات المختلفة – من الهاتف الذكي إلى الأجهزة اللوحية وما قبلهما وبعدهما – لم تتمكّن من إقصاء الكتابة اليدوية تماماً. وهذا مردّه إلى قابلية الأخيرة على التكيّف, ما من شأنه أن يبقيها حيّة لأمد غير منظور. لذا قد يكون من الحكمة بمكان الجمع بين الكتابتين اليدوية والرقمية تحقيقاً للاستفادة القصوى من ميزات كلّ منهما.
منتصف العام الماضي, دعت منظمة "اليونسكو" للاستخدام "المناسب" للتكنولوجيا في التعليم. وليس المقصود بكلمة "مناسب" سوى التوفيق بين القديم والجديد. والحال أن تذكُّر كون الدماغ البشري تطوّر عبر العصور للحفاظ على قدرته التكيّفية – التفاعلية, يكفي لإدراك أهمية توظيف مختلف حواسنا إدامة لمسارنا التطوّري. أما الكتابة اليدوية, فهي إحدى الوسائل التطوّرية – الإبداعية تلك.