كتب الإعلامي عارف مغامس ناشر موقع اليومية ويومية نيوز..
في ما يشبه الانخطاف إلى جاذبية سحر الصوت, والتحليق في مداراته الشجية وعذوبته المنسوجة من قصب النايات على ضفاف النيل, يحتلّك نغم ينسرب بعفوية مطلقة نحو قاع الروح وأقاصيها اللامرئية, بنفحة حب مشحونة بنور النور في أبهى تجلّياته الشفيفة, وأسطع ومضاته النورانيّة, يسكنك هاني شاكر الفنان الذي يتعالى عنده الحس الإنساني على علو أي لقب, وهو الرهيف حتى آخر ينابيع الصدق, يحتلّك بوسامته المليئة بما لا ينتهي من نقاوة وجه وذوق وإشراق, قبل ان يستعمر قلبَك ويستوطن عقلَك وخيالَك في آن واحد, صوتُه الرسوليُ المتفردُ العصيُ على الوصف, لا بل فوق الوصف وأبلغ من صفوة أيّ كلام, وأبعد مدى من موسيقى الأفلاك السماوية وموسيقى الأعماق في لحظات اشتعالها بنغمية العبارة وترنّمها بإحساس منشغل باجتياح عاطفي يدخل ثقوب الروح ومسامها الولهة بتناغم صُنع لها في أصفى لحظات الخلق, وأكثرها توازنا مع العالم.
مع هاني شاكر يلحّ عليك سؤال العارف: أيّ سرّ فيك أيّها الصوت؟ وأيّ حقيقة أنت؟ وأي غنى يتراءى في مداك الخلاق؟! وأي نغم هذا الذي يتولّه إن لم نقل يتألّه بين شفتي فنان؟!
أكثر من نصف قرن من الغناء والإبداع, وهاني شاكر هو هاني شاكر, يروي ظمأ الروح لأجيال زينت صمتها وبوحها بأعظم حس عرفته عبقرية الصوت. فكان لكلّ جيل ما يصبو إليه من فن ناضج بتوقيع فنان لا يتنزّل عن تقديم أيقونات تمطر شغف القلب بأعذب شعور, وأنقى حسّ إنسانيّ وفنيّ, حتّى لكأنّ الشّحنة الشعوريّة هي امتداد لحياته الفنيّة والخاصّة, على مسرح الحياة بكلّ حرارتها وألوانها, إذ قلّما تجد فنّانًا يتعب ويسهرعلى الكلمة وعلى اللّحن والتوزيع الموسيقي وعلى أدقّ تفصيل ولو هامشي, مثلما يفعل أمير الغناء العربي, لتخرج الأغنية لؤلؤة مستحيلة, يبحث عنها كلّ من يغوى ويحترف صيد اللآلىء, لكأنْ لوحة الخلق اكتملت بأغنية, تصالح نفسك فيها, وهي تلقي عطرها منسلة من قارورة طيب وصفاء. عطر يجيء من فيض حب وومض قلب مسكون بالخير والجمال, حتّى تتماهى بالحالة الشعوريّة إلى حدّها الأقصى, فرحا أو حزنا, صبابة وشوقا, أو فراقا ولوعة, جرحا وألما, أو طربأ وهناءة, وفي كلّ الحالات تسأل نفسك لماذا قبل هاني شاكر لم أكن لأعرف الحزن أو الجرح بهذه السعادة الروحية, وبهذا الموج العاطفي المتفجّر من فجر الكلمات الرائية التي تعيش مخاض ولادتها الأولى بكل ما فيها من وهج وانفعال.
ما سكنت محبة الفن وحب الناس فنانا مثلما استوطنت قلب هاني شاكر الكبير, وما عرف لبنان ولا عانقت بيروت فنانا عربيا وقع في حبها, مثل حبّه لها ولأهلها !
لطالما كانت بيروت ملاذا للكتّاب والشّعراء والأدباء والفنانين الكبار, لكنّ قصّتها مع هاني شاكر مختلفة, ومن نوع آخر, تعود إلى الزمن الفني الجميل, زمن يتوكّأ على مسيرة فنية نمت وتصادت وتماهت مع لبنان في تسعينيات القرن الماضي, حيث كان لحفلاته ومهرجاناته في لبنان, إيقاع من نوع خاص وعشق بطعم آخر لا يكتنه قدرته السحرية إلّا من عاش لياليها الأنسيّة الجميلة, ليالي الزمن الحالم, وتسنّى لي أن أذكر منها مهرجانات عاليه وبتلون وميروبا ودار الصداقة في زحلة, والخيارة, ناهيك عن حفلات بيروت عاصمة الفن والثقافة.
وبعد أكثر من عقدين, آثرَ المبدع الكبير والموهوب الصديق خضر عكنان صاحب شركة عكنان للإنتاج الفنيّ أن يعيد ذاك الوهج العاطفي والألق الجمالي إلى بيروت وإلى ربوع لبنان البلد الأحب إلى قلب هاني شاكر, وخضر مؤمن إلى أبعد حدّ بأصالة فنّه وإنسانيته ومحبته وحب الجمهور اللبناني والعربي له, فأعاد لذلك الزمن الجميل لحظاته العليا, لتتجلى الصلة العميقة بين فنان عظيم وجمهور وفيّ, نشأ على حب كبير لقامة فنية من قامات عمالقة الفن الخالد. وهو إيمان عند خضر عكنان يشبه جسرا يربط بين الوردة وعطرها ومساحات شذاها, وحبا لمصر أم الدنيا والحضارات من أهراماتها العظيمة وعظمة مبدعيها, إلى لبنان الرقي والجمال وعظمة بعلبك وصخرة الروشة وكل مكان فيه ينبض بالعظمة والابداع.
استطاع خضر عكنان على مدى ثلاث سنوات أن يفرش فضاء آخر للغناء, وان يرسم أجمل لحظات الحب والحنين وأروع الأمسيات. وهل أجمل وأبلغ من لوحات موسيقية وغنائية, كانت قد احتلت حيّزا كبيرا في وجدان جمهور متعطش للفن الجميل ولمطرب من قماشة الخالدين,ومن طينة المطربين الكبار؟
لبنان الذي حجز له هاني شاكر موقعا كبيرا في قلبه, قال فيه خلال مؤتمر صحافي عقده قبيل عيد الحب في 13شباط الفائت ":هناك قصّة عشق وحبّ وغرام واهتمام عمرها 30 سنة تجمعني بالجمهور اللبناني بفئاته العمريّة كافّة, فهو يدعمني ويتابعني دائماً... وانتظروا حفلات كثيرة لي مستقبلاً في لبنان". وتابع: "هتلاقوا فين شعب جميل زيّ كدا؟"
وعليه, إنّ الكتابة عن هذا الحب عصية على العبارة, وفوق اللّغة, لا يعبر عن هذا الحب إلّا النغم ذاته, وتلك الأغنيات هي فصول حياة, تتزيا كل ألوان الربيع وافراحه, وثمار الصيف ونضوجها, واحزان الخريف وآهاته, ومطر أعماق الشتاء ونضارته. ولكن في الكتابة متعة الانعتاق من كمين المعنى الدفين, والتحرر من استعمار ما لم يقل من تموجات الشعور.
انها من المرات القليلة التي أكتب فيها بهذه اللذة الروحية, وهذا الشغف ب"فنان ملأ الدنيا وشغل الناس", فنان لم يترك الماضي ولم ينجرف مع أمواج التيه الذي نعيشه, بل استطاع ان يوائم بين ما تقادم وما استجدّ, بروح مشرقة ومشرقيّة, فهي تارة تهامس الاطفال ببراءتهم, وتارة تناغم جيل الشباب باندفاعهم وحيوتهم, وطورا تطرب الكبار باختمارهم وتاملاتهم, وهو الفنان المثقفّ المتواضع والإنسان الإنسان, واكب عصره بإتقان واحترام ليحصد منذ اسابيع أكثر من مليار متابعة على احد مواقع التواصل الاجتماعي. ولبنان على موعد جديد مع أيقونة الزمن الجميل في عيد الفطر في الثالث عشر من نيسان في اطلال بلازا -غزير قرب كازينو لبنان, ليقدم اجمل أغانيه..
شكرا خضر عكنان على هذا الرقي والذوق والحب, وانت من مدرسة أخلاقية تعرف معادن الرجال وكيف ترسم مشهدية الفرح, وتدرك حجم المسؤولية, وكيف تعيد لبنان الى الزمن الجميل إلى ليالي الأنس وليالي زمان.
شكرا هاني شاكر على كلّ ما قدمت من فن عظيم وعطاء لا يحد!