كتب روني عبد النور -
صدر حديثاُ كتاب للأستاذ المساعد في الطب النفسي في جامعة ييل, صموئيل تي ويلكينسون, بعنوان "الغرض: ما يوحي به التطوّر والطبيعة البشرية حيال معنى وجودنا". مستعيناً بمجموعة متنوّعة من التخصّصات العلمية – كعِلم الأحياء التطوّري, والفلسفة, وعِلم النفس, وعِلم الاجتماع – يطرح ويلكينسون إطاراً للتطوّر البشري بحثاً عن دليل على عدم عشوائية التطوّر. فالأخير, برأيه, "مقيَّد وموجَّه بمبادئ عُليا".
لطالما ساد اعتقاد بأننا, من منظار وجودي, مجرّد تراكُم لسلسلة حوادث جزيّئية معقّدة. وقد أغدقت علينا الطبيعة ميولاً "متنافِسة" (أو ما عرّفه ويلكينسون بالإمكانات المزدوجة للطبيعة البشرية). فنحن, والحال كذلك, تتجاذبنا اتّجاهات مختلفة: الأنانية والإيثار, العدوان والتعاون, الشهوة والحب. وعندما تُقرن تلك الديناميات بامتلاكنا قدراً من الإرادة الحرة, يصبح ممكناً الذهاب إلى أن ثمة هدفاً كونياً لوجودنا.
نترك الكتاب للحظات ونعود بالزمن إلى أكثر من عقدَين خلوا. يومها اعتبرت مجموعة من علماء الأحياء أن جنسنا البشري وصل إلى ذروته البيولوجية التغييرية. وشكّل ذلك الرأي حينها مادة جدلية دسمة. إذ حاجج علماء آخرون بأن البشرية لا تزال تحت تأثير القوى التطوّرية التي أوجدت كمّاً من الأنواع التي استوطنت الكوكب لما يزيد عن ثلاثة مليارات سنة.
وفقاً للنظرية الداروينية, تتغيّر الأنواع البيولوجية مع الوقت عبر اكتساب الصفات المساعِدة على البقاء والتكاثر. فالأنواع الأكثر ملاءمة على مستوى فردي لبيئاتها تتفوّق عمراً وتكاثراً, ناشرة جيناتها عبر المجموعات السكّانية في إدامة لمسارها التطوّري. لكن الحال لم تكن كذلك دائماً بسبب شروع غالبية الجينات – وليس فقط الأفضل بينها تكيُّفاً مع بيئاتها – بالانتقال من جيل لآخر.
دخول الهندسة الجينية الحيوية على المشهد زادت الجدال تعقيداً. ثم جاء العام 2010 حين قدّم علماء في جامعة ليفربول أول دليل تجريبي على أن التفاعلات بين الأنواع (وليس التكيّف مع البيئة) هي محرّك وازن للتطوّر. وقد تتبّع الفريق البحثي الفيروسات في مسعاها التطوّري الممتدّ لمئات الأجيال تحقيقاً لهدفٍ أساسي: إصابة البكتيريا بعدواها. لكن حيث طوّرت البكتيريا دفاعات تكيّفية, تطوّرت الفيروسات بدورها بوتيرة أسرع مولّدة بالتالي تنوّعاً أكبر.
وباستخدام تقنية تسلسل الحمض النووي, أظهر الفريق صحّة "فرضية الملكة الحمراء" التي تحدّثت سنة 1973 عن ضرورة استمرار تكيُّف الأنواع وتطوُّرها لتمرير الجينات جيلياً وتفادي الانقراض, في إطار علاقة تكافلية, بإزاء تطوُّر أنواع أخرى. أما سنة 2022, فبرزت أدلة على تحوُّل البشر إلى قوّة دافعة رئيسة لمسار التطوّر الأرضي. إذ درس مشروع ضخم, شارك فيه 287 عالماً في 160 مدينة في 26 دولة, تأثير التحضّر على التطوّر عالمياً. واستخدمت الدراسة, التي نُشرت في مجلة Science, نبات البرسيم الأبيض كنموذج.
من خلال جمع أكثر من 110000 عيّنة, تبيّن أن تباعُد أراضي المنشأ ليس سبباً لعدم تشابه البرسيم, تماماً كما أن نموّه في مساحات زراعية متقاربة ليس بالضرورة سبباً لتشابهه. الملاحظات أتت بغض النظر عن العوامل المناخية. وشكّلت مثالاً على التطوّر التكيّفي الموازي الذي يعني تأثُّر مجموعات سكّانية منفصلة ومتباعدة بنفس الضغط الانتقائي لسمات محدّدة. وينسحب ذلك على البشر؛ فالطرق التي غيّرنا عبرها بيئاتنا غالباً ما اندرجت في سياق مماثل هي الأخرى.
وعندما اقترح علماء وفلاسفة من مؤسسة كارنيغي للعلوم وجامعة كولورادو بولدر, أواخر العام الماضي, قانوناً جديداً للطبيعة, اعتبره أهل الاختصاص منظوراً جديداً لسبب تطوّر الأنظمة المتنوّعة المشكّلة لأسُس الكون. فـ"قانون زيادة المعلومات الوظيفية" ذاك, والمنشور في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences, صوّر التطوّر البيولوجي الدارويني كمثال حيوي على ظاهرة أعمّ على مستوى الذرّات والمعادن والأغلفة الجوية للكواكب.
تناول القانون التطوّر كعملية كونية تنطبق على مجموعة من الأنظمة, الحيّة وغير الحيّة, التي تزداد مع الوقت تنوّعاً وتنميطاً. فعلى المستوى النجمي, مثلاً, شكّل عنصران فقط – الهيدروجين والهيليوم – المكوّنات الرئيسة للجيل النجمي الأول الذي أعقب الانفجار الكبير قبل حوالي 13.8 مليار سنة. لكن الجيل الأول كوّن, عبر عمليات الاندماج النووي الحراري, حوالى 20 عنصراً أكثر ثقلاً كالكربون والنيتروجين والأكسجين. وتلاه جيل تشكّلت نجومه من بقايا سابقه لتكوّن ما يقارب 100 عنصر إضافي.
سماح القانون بإطلاق تنبّؤات حول كيفية تطوّر الأنظمة غير المألوفة مع الوقت, يحيلنا إلى دراسة حديثة لجامعة نوتينغهام, نشرتها المجلة عينها قبل أشهر, واستنتجت أن القوى المحرّكة للتطوّر قد لا تكون عشوائية في نهاية المطاف. البحث ارتكز إلى القوة الحسابية للذكاء الاصطناعي للتحقيق في أكثر من 2000 جينوم كامل للبكتيريا الإشريكية القولونية. فلدى تغيير الأخيرة لحمضها النووي, تكتسب مهارة معيّنة لسرقة الجينات من بيئتها ودمجها في جينومها الخاص. والعملية, التي تُعرف بنقل الجينات الأفقي, تُمكّن البكتيريا من التزوّد بسمات جديدة, كتجنّب المضادات الحيوية.
من خلال فحص الجينات الأفقية في مواضع مختلفة, لاحظ الباحثون تأثير بيئة الجينات المباشرة عليها. وهو تذكير بأن إعادة مجريات حقبة تطوّرية معيّنة يؤدّي إلى نتائج مختلفة وغير متوقّعة, كون المسارات التطوّرية تعتمد على أحداث غير متوقّعة. لكن مع ذلك, أبرز نموذج الذكاء الاصطناعي أنماطاً من القدرة التنبّؤية عبر آلاف عمليات الـ"إعادة" تلك.
الخلاصة, التي بقيت طويلاً صعبة الإثبات لغياب القدرات الحاسوبية المناسبة, هي: قوى الانتقاء الطبيعي تنشط على المستوى الجزيّئي أيضاً. أما نتائج البحث, فلن تقتصر على إمكانية استكشاف الجينات الداعمة لأخرى مقاوِمة للمضادات الحيوية. لا بل ستُلقي الضوء, مع تراكُم التجارب, على العديد من الأحداث التطوّرية القابلة للتنبّؤ أيضاً. وفي هذا, بالحقيقة, ما يلاقي طرح ويلكينسون واستنتاجه: ليس تطوّرنا عشوائياً.