كتب روني عبد النور -
عالَم ما بعد جائحة "كوفيد-19" ليس كما قبله. فالأخيرة, بتبعاتها, باتت بحدّ ذاتها مقياساً لغير مقارنة. أما المخاوف من آثارها طويلة الأمد, فتحوّلت الشغل الشاغل للخبراء. بدوره, يزداد الحديث عن متلازمة التعب المزمن التصاقاً بتلك التبعات, نفسياً وفيزيولوجياً. لكن ارتباطها بالجائحة ليس سوى أحد الألغاز المحيطة بالمتلازمة.
وفق منظمة الصحة العالمية, يعاني ما بين 17 و24 مليون شخص حول العالَم من المتلازمة التي تُعرف أيضاً بالتهاب الدماغ والنخاع المؤلم للعضل. ومن أعراضها: المشاكل الإدراكية المعروفة بـ"ضباب الدماغ"؛ وشعور غامض بالتعب المزمن الشديد. النساء اللواتي تُصبن بها لأكثر من 10 سنوات هنّ أكثر تأثّراً من الرجال بأعراضها الحادّة مع التقدّم في السنّ, بحسب دراسة "DecodeME" لجامعة إدنبرة. أما في النمسا, فقد نبّهت دراسة حديثة, نُشرت في مجلة Journal of Clinical Medicine, من أن حالات الإصابة بالمتلازمة قد تتضاعف خلال سنوات. إذ إن مساحة التلاقي بين معايير تشخيصها وتأثيرات "كوفيد" طويل الأمد تتّسع. لكن لماذا؟
الإجابة قد تأتي من دراسة ظهرت مؤخّراً في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences, حيث وقع باحثون على مستويات عالية من بروتين "WASF3" – المساهم في تنشيط قدرة الخلايا على الحركة – في عضلات المصابين بالمتلازمة, ما يعطّل وظيفة توليد الطاقة في خلاياهم.
قام فريق من المعهد الوطني الأميركي للقلب والرئة والدم بداية بفحص عيّنات أنسجة من عضلات امرأة تبلغ 38 عاماً ومصابة بطفرة معزّزة لمرض السرطان في جين "TP53". اللافت أن السيّدة, بخلاف شقيقها ووالدها اللذين يشاركانها الطفرة, كانت تعاني من تعب مزمن شديد رغم عدم تشخيص إصابتها رسمياً بالمتلازمة. وجاءت النتائج مطابقة في تجارب أُجريت على فئران أيضاً. فبعد تعديل الأخيرة وراثياً لإنتاج كميات مرتفعة من البروتين المذكور, أبدت بالفعل عيوباً في وظيفة توليد الطاقة الخلوية وتراجُعاً في قدرتها الحركية.
البحث دفع بالفريق لاعتبار أن العجز في استقلاب طاقة الدماغ قد يفسّر الإرهاق المعرفي الذي يواجهه العديد من مرضى المتلازمة. مع العلم, تشديداً على دور البروتينات, بأن دراسات سابقة لحظت مستويات أقلّ من بروتين C4a لدى المصابين الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة؛ ومستويات أعلى من بروتين مرتبط بعديد السكاريد الدهني لدى من يعانون بينهم من مشاكل في بطانة الأمعاء.
أثر المتلازمة المزدوج على الصحة العقلية والبدنية للمصابين أضاءت عليه دراسة لجامعة مانشستر بتناولها أفراد يعانون من ثلاثة اضطرابات: متلازمتا التعب المزمن والقولون العصبي والألم العضلي الليفي. فمن خلال تحليل بيانات 120000 شخص, رمى الباحثون إلى كشْف الغموض المحيط بالاضطرابات الثلاثة.
البحث المنشور في مجلة PLOS ONE قارن بين أفراد أبلغوا عن أحد الاضطرابات الثلاثة وآخرين أبلغوا عن واحد من ثلاثة أمراض شائعة: السكّري, والتهاب الأمعاء, والتهاب المفاصل الروماتويدي. والنتيجة: تشابُه الأعراض في المجموعتين. من الإرهاق في حالة متلازمة التعب المزمن/السكّري؛ مروراً بالإسهال وآلام المعدة في حالة متلازمة القولون العصبي/التهاب الأمعاء؛ إلى آلام مبرحة في المفاصل والعضلات في حالة التهاب المفاصل الروماتويدي/الألم العضلي الليفي.
وخلص تحليل مقطعي للبيانات إلى تشابُه المتغيّرات الأكثر ارتباطاً بمشاكل الصحة العقلية في مختلف الحالات. من القلق والاكتئاب والتوتّر إلى تراجُع القدرة على إنجاز المهام اليومية. فكمثالٍ, ظهر دليل على دورٍ لمشاكل الصحة العقلية بإزاء تطوُّر متلازمتَي التعب المزمن والقولون العصبي لدى قرابة ربع المصابين بهما ممّن خضعوا للاختبار.
دماغياً, اكتشف علماء من المعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتة الدماغية التابع لمعاهد الصحة الوطنية الأميركية أدلّة دامغة على وجود تشوّهات في أدمغة مصابين بالمتلازمة وجهازهم المناعي. صحيح أن الدراسة اقتصرت على 17 مريضاً فقط وحصلت قبل تفشّي "كوفيد", لكن من شأن النتائج, التي نُشرت في مجلة Nature Communications, إيضاح الخلفية البيولوجية للمرض.
فقد سبق للمرضى المستهدَفين أن عانوا من عدوى ما قبل إصابتهم بالمتلازمة. وبعد إخضاعهم لمجموعة تقييمات فيزيولوجية, أظهر تصوير أدمغتهم بالرنين المغناطيسي الوظيفي نشاطاً أقل في منطقة الوصل الصدغي الجداري الدماغية – ما يعطّل كيفية اتّخاذ الدماغ لقرار بذل الجهد ويسبّب شعوراً بالتعب. وفي حين حافظت قشرة الدماغ الحركية, التي تُوجّه حركات الجسم, على نشاط غير اعتيادي أثناء تأدية المهام المرهِقة, لم تظهر علامات تعب عضلية على المرضى. أي, وفق واضعي الدراسة, قد ينشأ الإرهاق عن تضارُب بين ما يعتقد المريض أنه قادر على تحقيقه وبين ما يؤدّيه فعلياً.
الذكاء الاصطناعي دخل على خط المتلازمة أيضاً في ورقة بحثية أوردتها مجلة Scientific Reports. فقد قام فريق من جامعة كاتالونيا المفتوحة ومعهد فال ديبرون للبحوث, بتحليل إمكانية التعلّم الآلي توفير فهْم أفضل لأعراضها على ضوء نقص المؤشّرات الحيوية, والوصول بالتالي إلى تشخيص مبكر وعلاجات أكثر نجاعة.
البحث أظهر إمكانية محاكاة حالة المريض في سياقات مختلفة بناءً على إجاباته على استبيان معيّن. فبحسب الفريق, يمكن تزويد غير المتخصّصين بتطبيق التعلّم الآلي القادر على التنبؤ بأداء المصاب بالمتلازمة في اختبار الإجهاد. وفي حين يكمن التحدّي الرئيس في جمْع ما يكفي من البيانات عالية الجودة لتمكين خوارزمية الذكاء الاصطناعي من التنبؤ بالإجابات, اقترحت الورقة "توليد" ما أسماه الباحثون بـ"المرضى الاصطناعيين". وهذا يتيح استخدام البيانات المجمّعة من استبيان عام لإنجاز استبيانات أكثر تخصّصاً.
لكن الفكرة, على أهميّتها, لا تخلو من محاذير. ونذكر اثنين: إبطال سوء استخدام البيانات "الاصطناعية" للتحليلات؛ وتأثير الاستغناء عن البيانات الحقيقية على واقعية النتائج. لكن مع ذلك, يُؤمَل من التطبيق المساعدة على فكّ ما أمكن من ألغاز المتلازمة العصيّة على التجارب السريرية.