هناك معلومات وصلتني تدخل في خانة القليل من التفاؤل في خضمّ التشاؤم بمصير حرب إسرائيل الهمجية على غزة وإمكان توسّع الحرب الإسرائيلية بالذات إلى لبنان. تفيد هذه المعلومات أولاً بأن الأميركيين والأوروبيين نقلوا عن إسرائيل استعدادها لحل دبلوماسي في لبنان قريباً على أساس الفصل بين جبهتها الشمالية وغزة, وسط ضغط شعبي يطالب بحلٍّ لأزمة 140 ألف نازح إسرائيلي من الشمال, ونتيجة عدم اليقين من ترسانة الصواريخ المتطورة لدى "حزب الله". ثانياً, أن المفاوضات حول هدنة في غزة لم تنسفها مجزرة "دوار النابلسي" و"حماس" هددت فقط بوقف المفاوضات إذا تكررت ولم تتراجع عن وعدها بتسليم مسودتها النهائية بشأن وقف النار في القطاع. هذا فيما تعمل الدبلوماسية الأميركية مع الدبلوماسية العربية نحو ضمانات أمنية وخريطة طريق بجداول زمنية نحو انتقال فعلي إلى السيادة الفلسطينية على غزة والضفة الغربية, على أن يبدأ النقاش في مستقبل وشكل الدولة الفلسطينية تدريجياً.
على الصعيد اللبناني, وبحسب مصادر وثيقة الاطلاع, سيشهد الأسبوع المقبل زيارات مكثفة لمبعوث الرئيس جو بايدن, آموس هوكشتاين, للبنان وإسرائيل, حالما يتوضح أن هدنة وقف النار الموقتة في غزة باتت مضمونة. ما يحمله هوكشتاين هو خطة وخريطة طريق لتطبيق القرار 1701 بآلية mechanism واضحة تؤدّي إلى مأسسة institutionalize الخط الأزرق الذي يفصل لبنان عن إسرائيل, وإلى اتفاق دولي على قراءته بعد إزالة الـ7 نقاط الخلافية عليه ومعالجة الـ6 نقاط المتبقية.
ينطلق هوكشتاين من مبدأ تجنيب لبنان وإسرائيل معركة شرسة بأمل التوصّل إلى صيغة نحو استقرار الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي بضمانات أميركية. خلاصة الأطروحات هي موافقة "حزب الله" على الانسحاب من الجنوب اللبناني إلى شمال نهر الليطاني ما بين 7 إلى 10 كيلومترات, حيث يقوم حوالي 10 آلاف عنصر من الجيش اللبناني بتولّي إدارة تلك المنطقة. في المقابل, تتعهد إسرائيل التوقف عن انتهاك السيادة اللبنانية بحراً وبراً وجواً وتتوقف عن تحليق طائراتها الحربية في الأجواء اللبنانية.
لدى آموس هوكشتاين, تقول المصادر نفسها, حلول للنقاط الست المختلف عليها. أما في ما يتعلق بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا فإنها تدخل في المرحلة الثانية من المفاوضات التي تقوم بها "اللجنة الثلاثية" العسكرية وتضم لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة.
فالكلام ليس عن "سلم" بل هو عن "استقرار". ليس في الأفق الآن مشروع معاهدة سلام أو إعلان التطبيع بين لبنان وإسرائيل. هناك وقفة استدراك لكلفة الحرب الكبيرة بين "حزب الله" وإسرائيل في لبنان, كلفتها ليس فقط على لبنان بل على إسرائيل و"حزب الله" ووراءه إيران وصواريخها المزروعة في الأراضي اللبنانية.
أي حرب إسرائيلية شاملة على لبنان تعني بالتأكيد حرباً إسرائيلية - إيرانية بالإنابة عبر "حزب الله", ولو على حساب الشعب اللبناني. استثمار الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ترسانة "حزب الله" بانتهاك فاضح للسيادة اللبنانية استثمار تحرص عليه طهران ولا تريد التفريط به الآن. إنه جزء من المفاوضات الثنائية الكبرى مع الولايات المتحدة والتي توليها طهران فائق الأهمية. ثم إن إيران ليست جاهزة لحرب إيرانية - إسرائيلية أياً كان السبب.
الصيغ المتداولة لمعالجة الحدود اللبنانية - الإسرائيلية تقوم على معادلة ربح - ربح إذا تم تجنّب الحرب, يقول مسؤول اشترط عدم ذكر اسمه, وعلى خسارة - خسارة لإسرائيل و"حزب الله" - إيران إذا وقعت الحرب. إنها صيغ إنقاذ ماء الوجه. "حزب الله" ليس متدشقاً بفكرة الانسحاب إلى شمال الليطاني, لكنه سيضطر لإعادة التموضع إذا نجحت جهود آموس هوكشتاين وتلقى الضمانات المطلوبة من إسرائيل, كما من إيران بصورة غير مباشرة.
فالإدارة الأميركية تسعى بكل ما لديها لأن تعالج التعنّت الإسرائيلي - بل التعالي الإسرائيلي عليها وعلى مطالبها - وأن تحشد دعم جميع اللاعبين في الشرق الأوسط - الدول الخليجية العربية وإيران وتركيا - كي لا تدخل الحملة الانتخابية الرئاسية مُثقلة بحرب إسرائيل على غزة أو حرب إسرائيل على لبنان. إنها في حاجة إلى مقاربة سلمية لا إلى اتفاقية سلام مستحيلة في هذه المرحلة. فالكلام هو عن ترتيبات موقتة وعن استقرار.
فلسطينياً, الحديث لا يصب في التسوية الكبرى بل في التفاهمات والترتيبات الأولية preliminary. الانطلاق يكون من ضمانات أميركية وإقليمية بأمن إسرائيل لكن على أن تتوقف إسرائيل عن إنشاء المستوطنات, وأن تقر بمبدأ دولة فلسطينية وحقوق فلسطينية يؤدي إلى سلام لاحقاً.
ما تطالب به إسرائيل هو أن تتعهد الولايات المتحدة عدم دعم قيام دولة فلسطينية إذا ضمت "حماس". ما تصر عليه إسرائيل هو الرفض القاطع لمبدأ قيام دولة فلسطينية ما لم تتلق الضمانات الأميركية بعدم الاعتراف بدولة فلسطينية إذا ما شملت الدولة عناصر "حماس".
المفاوضات السرية مستمرة وتشمل مفاوضات مع مصر وكذلك قطر في ما يخص مستقبل "حماس", وضمان عدم وجود "حماس" في غزة عسكرياً. هناك مفاوضات مع الأردن ومصر من أجل انتقال فعلي إلى السيادة الفلسطينية على غزة والضفة معاً, على أن يتم النقاش في الدولة الفلسطينية في مؤتمر دولي لاحقاً. الكلام يصب في ثلاث مراحل: وقف النزاعات وبناء إسرائيل للجدار العازل, انتقال فعلي للسلطة الفلسطينية إلى غزة في أعقاب تشكيل حكومة تكنوقراط, وعقد مؤتمر دولي يتميّز بتبني جدول زمني, علماً أن أوسلو وكامب ديفيد افتقدا عمداً العامل الزمني, وكان ذلك خطأً.
الجديد قديم في قاموس الأمل بتسوية للنزاع العربي - الإسرائيلي الذي تقلّص في السنوات الماضية إلى نزاع فلسطيني - إسرائيلي, ترافقه ادعاءات إيرانية بأنها الأم للقضية الفلسطينية بعد "خذل" العرب لها, بحسب التسويق والتبرير الإيراني لصنع جيوش وميليشيات تابعة لأوامرها وتمويلها وتسليحها في أربع دول عربية هي العراق ولبنان وسوريا واليمن.
المزايدات الإيرانية ليست عسكرية اليوم بل هي تهادنية, بعدما وضعت طهران العلاقات الثنائية لها مع إدارة الرئيس جو بايدن في طليعة أولوياتها, وبعدما تملَّصت من "المغامرات المدروسة" لحركة المقاومة الإسلامية "حماس", في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما تبعها من همجيّة الانتقام الإسرائيلي الكاسح للمدنيين والمدمّر للبنية التحتية في غزة بحثاً عن مراكز قيادة "حماس" في الأنفاق للقضاء عليها.
الجديد القديم هو العودة إلى لغة "العملية" process في البحث عن التسوية الكبرى, والذي عُرِف لعقود بتعبير "عملية السلام" للشرق الأوسط. في البدء اندفع كثيرون منا نحو الاعتقاد بأن الحدث الكبير في 7 تشرين الأول قد يسفر عن تلك "الصفقة الكبرى" Grand Bargain التي تنقل منطقة الشرق الأوسط إلى عتبة السلام المنشود. انحسر هذا الاندفاع بسبب تعنّتٍ إسرائيلي غير مسبوق في وجه الولايات المتحدة وفي الرفض الشعبي والحكومي الإسرائيلي الواضح لما يُعرَف بـ"حل الدولتين".
المعلومات متضاربة كما الأحداث الميدانية. لذلك يصعب الحسم والجزم بمصير الحرب الإسرائيلية على غزة أو بمصير لبنان الذي تستدعيه إسرائيل إلى الحرب, فيما يُبحر "حزب الله" التابع للقرار الإيراني بين ولائه لطهران ومصالحها الاستراتيجية, وحسابات كلفة الحرب عليه وبنيته العسكرية التحتية أكثر من حسابات الدمار لكامل لبنان.
ما يقال هو أن الجهود الأميركية مستمرة, ليس فقط لردع إسرائيل عن تنفيذ العملية العسكرية التي أعدّتها على لبنان بهدف القضاء على صواريخ "حزب الله" وتهديداته, حتى لو كلّفت تدميراً يشابه التدمير الإسرائيلي المرعب لقطاع غزة. ما يقال بألسنة مسؤولين أميركيين معنيين بصنع السياسة في إدارة بايدن هو أن العمل مستمر نحو التوصل إلى تفاهمات مبدئية في المسألة الفلسطينية تؤدي إلى وقف النزيف في غزة, وإلى وقف العمليات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية مقابل ضمانات أميركية وكذلك عربية.
لا أحد يتكلم الآن عن "صفقة كبرى" أو عن "تسوية دائمة" أو عن فرصة لنقلة نوعية في ملف النزاع العربي - الإسرائيلي, كما كانت الحال مباشرة بعد عمليات "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى في7 تشرين الأول, والتي هي في نظر الأكثرية العربية بطولية مذهلة, وفي نظر الغرب إرهاب لا يُحتمل. لغة اليوم تصب في خانة "الاحتواء" وإطلاق "عملية" لا تؤدّي إلى قيام الدولة الفلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية, فهذه لغة ما قبل 7 تشرين الأول.
لغة ما بعد 7 تشرين الأول في العواصم الغربية تنطلق من الموافقة مع إسرائيل على إنهاء الوجود العسكري لحركة "حماس" في غزة, بناء الجدار العازل, ضمان أمن إسرائيل, عدم الموافقة على استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح, معارضة السيطرة الإسرائيلية على غزة مع الإصرار على إدارة فلسطينية للقطاع, توقف إسرائيل عن بناء المستوطنات, والاكتفاء بإقرار مبدأ قيام دولة فلسطينية ما بشكل ما وبرؤية ما, لكنها ليست تلك الدولة الفلسطينية.
كتبت راغدة درغام في "النهار العربي"