روني عبد النور- جريدة الحرة
في المؤتمر العالمي الرابع عشر لاستهداف الميتوكوندريا الذي عُقد في ألمانيا أواخر العام الماضي, شدّد أكثر من 200 مشارك من كافة أنحاء العالَم على الدور الحاسم الذي تلعبه الميتوكوندريا على صعيد الصحة السريرية والبحث العلمي. وعندما يُعقد المؤتمر الخامس عشر, في ألمانيا أيضاً, في تشرين الأول/أكتوبر المقبل, سينصبّ التركيز على قدرة هذه "القوى الصغيرة", بحسب المنظّمين, على إحداث تحوُّل كامل في مستقبل الرعاية الصحية. فلِمَ يولي المجتمع العلمي – الطبّي هذه الأهمية للميتوكوندريا؟
تعريفاً, الميتوكوندريا هي أحد المكوّنات الداخلية الدقيقة للخلايا الحيوانية والنباتية المسؤولة عن توليد الطاقة في الأخيرة. وتتمثّل محوريّتها بكونها موجودة في جميع خلايا الجسم باستثناء خلايا الدم الحمراء. وهذا يمنحها دوراً مركزياً في إدارة مستويات الطاقة الخلوية (في معرض إنجاز الخلايا لعمليّاتها) والحفاظ عليها. فالأداء السليم لمحطّات توليد طاقة الخلايا هذه ينعكس تحسّناً في أداء العديد من الأنسجة والأعضاء. من تدعيمها للدفاعات المناعية وإطالة عمر الإنسان إلى قدراتها التواصلية الفائقة, تُعزّز ثلاث دراسات حديثة نظرية الدور المركزي للميتوكوندريا.
تشرع الخلايا في طور شيخوختها في إفراز جزيّئات التهابية لطالما بقيت مسبّباتها لغزاً علمياً. بيد أن باحثين في جامعة غلاسكو ومايو كلينيك سلّطوا – في دراسة نشرتها مجلة Nature – الضوء على العلاقة الدقيقة بين الخلايا تلك, الالتهابات, والحمض النووي للميتوكوندريا. وبعبارات أدقّ: "تسريب" الأخيرة لحمضها النووي يؤدي إلى استجابة مناعية تليها التهابات.
معلوم أن الخلية البشرية تخضع في المتوسّط لما بين 50 و60 دورة انقسام. لكن فقدان الخلية بعد ذلك لقدرتها الانقسامية لا يحول دون بقائها نشطة من منظار أيضي. وهذا يُعرف بالنمط الظاهري الإفرازي المرتبط بالشيخوخة. الميتوكوندريا هي ضابط الإيقاع الرئيس هنا من خلال إطلاق الجزيئات الالتهابية, ما يدفع بجهاز المناعة للتدخّل وإزالة الخلايا الهرمة. لكن حيث تتمكّن الخلايا من تجنُّب الردّ المناعي, تتفاقم الالتهابات ويفقد نظام المناعة إمكانية القضاء عليها, فتتسارع الشيخوخة وترتفع احتمالات الإصابة بالأمراض.
ركّزت الدراسة, مستخدمة الفئران, على نفاذية الغشاء الخارجي للميتوكوندريا, وهي الإستراتيجية التي تستخدمها الأخيرة تسهيلاً لموت الخلايا "المبرمَج". ويجري ذلك عبر إطلاقها بروتيناً محدّداً في سيتوبلازم الخلية (وهو السائل الذي يملأ الخلية ومسرح تفاعلاتها الكيميائية) لتفكيكها والتخلّص منها, منعاً للاستجابات المناعية غير الضرورية.
والحال أن تمكُّن الباحثين من منع تسرّب حمض الميتوكوندريا النووي, كبح الالتهابات المرتبطة بشيخوخة الخلايا. أما أبرز الانعكاسات, فتجلّت بتراجُع علامات الشيخوخة في الخلايا المسؤولة عن الاستجابة المناعية للدماغ في وجه الأمراض التي تصيب الجهاز العصبي. وفي تشريح تلك الانعكاسات, بحسب الخبراء, منطلق لإيجاد علاجات حديثة لإبطاء الشيخوخة.
الدراسة الثانية تناولت الشيخوخة الإنجابية والخصوبة ونشاط الميتوكوندريا الحاسم بإزائها – وحيال جودة البويضات بالأخصّ. فقد قام فريق بحثي من معهد "هاورد هيوز" الطبي الأميركي, باستكشاف المسارات الخلوية التي تتأثر بميتوكوندريا البويضات معتمدين في التجربة على أحد أنواع الديدان بدلاً من الفئران. إذ في حين أن متوسّط عمر الفئران الإنجابي يتراوح بين 8 و12 شهراً, تتكاثر الديدان – التي تتشابه في العديد من العمليات البيولوجية الأساسية والمسارات الخلوية مع البشر – لمدّة ثلاثة إلى ستة أيام فقط.
في البحث الصادر في مجلة Developmental Cell, عمد الفريق إلى دراسة أيض الميتوكوندريا في بويضات الديدان الهرمة. ووجدوا أن إنتاج الجزيّئات النشطة زاد في البويضات الأكثر قِدماً. ولدى خفض الإنتاج مختبرياً, تمكّن الفريق, لأول مرة, من إطالة العمر الإنجابي للديدان في أوضح صلة بين أيض الميتوكوندريا والشيخوخة الإنجابية. ويأمل العلماء بأن تشكّل الإحاطة بأسُس هذا الترابط منظوراً جديداً لفهم الصحة الإنجابية وسُبل الحفاظ على خصوبة المرأة لأطول فترة ممكنة.
ونأتي إلى ثالث الدراسات وأكثرها ثورية. فقد اكتشفت مجموعة من علماء الأحياء في جامعة كاليفورنيا في بركلي أن ميتوكوندريا مختلف الأنسجة تتواصل في ما بينها كأجهزة اتصال خلوية لإصلاح الخلايا المصابة. وجاءت مجموعة الأوراق البحثية – التي نُشرت في مجلة Science Advancesوموقع biorxiv.org– لتبرز مساراً كيميائياً – حيوياً ناظماً للشيخوخة (اعتماداً على الإشارات المنقولة على مستوى الميتوكوندريا).
فقد تبيّن من خلال تجارب أُجريت على الديدان أن الضرر الذي لحق بميتوكوندريا خلايا الدماغ أدى إلى استجابة "تصحيحية" ساهمت بدورها في نشوء تفاعلات مماثلة في ميتوكوندريا خلايا جسم الدودة الأخرى. النتيجة المفاجئة كانت إطالة عمر الديدان المستهدَفة بواقع النصف. وجاء ذلك ضداً على افتراض سابق بأن الميتوكوندريا المعتلّة من شأنها تسريع مسار موت الكائن, لا إطالة عمره.
كيف؟ تتطلب عملية توليد الميتوكوندريا للطاقة أدوات جزيّئية معقّدة قوامها عشرات الأجزاء البروتينية المختلفة. وحين تُفقَد بعض تلك المكوّنات أو تُصاب بالتشوّه, تقوم الميتوكوندريا بتنشيط استجابة الإجهاد التي تساعدها على استعادة وظيفتها. لكن بينما توقّع الفريق أن تدور هذه العملية داخل الخلايا العصبية ذات الميتوكوندريا التالفة فقط, لاحظوا أن خلايا أنسجة أخرى فعّلت استجابات "التصحيح" لديها توازياً على الرغم من عدم تضرّر الميتوكوندريا الخاصة بها.
وبما لا يقلّ أهمية, بدا الخط الجرثومي – أي الخلايا المنتِجة للبويضات والحيوانات المنوية – أساسياً بالنسبة لنظام "الاتصال" ونقل الإشارة من الجهاز العصبي إلى الأنسجة الأخرى. صحيح أنه يتعيّن معرفة مدى انطباق النتائج على البشر. إلّا أن التمعّن بما خلص إليه الفريق البحثي يشي بأن جذورنا الميتوكوندرية ترجّح انسحاب النتائج علينا. يكفي توصيف عالِم الأحياء المشارِك في الأبحاث, أندرو ديلين, للميتوكوندريا بذلك "الشيء الصغير الناشط داخل الخلايا لمليارات السنين محافظاً على أصوله البكتيرية".