عُدْتُ وفي أُذنيّ ضجيج مدنيّات لا تُحصى. وفي رأسي براكين من الأفكار, وفي قلبي حنين إلى عزلة أستطيع أنْ أغرق في صمتها وسكونها وجمالها. فأطهّرِ أذني من الضجيج, وأفرّج عن رأسي ممّا فيه من البراكين. وأبرّد بعض ما في قلبي من الشوق والحنين. وكان الشخروب كريماً معي إلى أقصى حدّ. فما ضنّ عليّ بالعزلة التي كنتُ أنشد, بل فتح لي قلبه وذراعيه. فرحت أمضي معظم نهاراتي في كهف من كهوفه. فساعات للتأمّل, وغربلة الماضي, وتعرية النّفس, وفتح كُوى الرّوح لنور الله. وساعات للتأليف. وهل التأليف غير مكالمة الناس؟"
بهذه الكلمات عاد ميخائيل نعيمة من غربته في نيويورك إلى بسكنتا عقب وفاة الأديب جبران خليل جبران, مردداً بيتي أبي تمام: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل.
نعيمة الأديب والمفكر والفيلسوف, لا بل الصوفي الذي ولد سنة 1889 وكان من مؤسسي الرابطة القلمية ومستشارها عام 1920 في حين كان جبران خليل جبران عميدها؛ واعتبر ميخائيل من روّاد أدباء المهجر, ومن القلائل الذين كتبوا سيرتهم الذاتية بأنفسهم, لتوافيه المنية سنة 1988. فهو شاعر وقاصّ ومسرحيّ وناقد وكاتب مقال ومتفّلسف في الحياة والنفس الإنسانية, وقد ترك خلفه آثاراً بالعربية والإنجليزية والروسية؛ وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المنزلة السامية في عالم الفكر والأدب.
وتكريماً له ولعطائه الثقافي وإرثه الفكري, أقام نادي الليونز في الإدارة المركزية للجامعة اللبنانية ندوة تكريمية يوم الثلاثاء الماضي لأبرز أعمدة الأدب اللبناني.
إذن ومن ناحية أخرى, أجمع مؤرخو الأدب ونقاده على أن نعيمة أحد أبرز رواد الثورة التجديدية والطليعية في الأدب العربي المعاصر خلال النصف الأول من القرن العشرين, فهو من حرر الأدب من الأزياء اللغوية, كما ونزع عنها غطاء الجمود ليبث الحياة والنشاط بها.
لكن وفي ظل ثورة الحضارة اليوم, لماذا لا يزال ميخائيل نعيمة حيّاً معنا وبأدبنا؟ ولماذا أفردت له المكتبة العربية مكاناً كبيراً لكتاباته ولما كُتب عنه؟
حاول ميخائيل نعيمة الاستفادة من دراساته في الدول العربية والشرقية, وأزاح الزخرفة عن الأدب العربي, وحاول تخليصه منها.
كما اقترن نعيمة بـــ"الصوفية" حتى أُطلق عليه لقب "ناسك الشخروب", واليوم تطوق مجتمعاتنا إلى الروحانيات المتحررة من سطوة الالتزامات الدينية, فوحدة الوجود في المنظومة الصوفية هي الأخلاق والحياة الاجتماعية للفرد. فكان إيمانه بالانسانية ومصيرها وتكسير الحواجز الوهمية سبيلاً إلى العيش في سلام.
وقد حذّر ميخائيل نعيمة من "اثر السياجات لأنكم إنما تسيّجون الوهم والباطل, أما الحقيقة فتهملونها خارجاً, وعندما تفتشون عن أنفسكم داخل السياج ولا تجدون غير الموت".
فيما يرى نعيمة ان العقل موجه للحواس وهو مصدر عذاب الانسان ومرشد الانسان الذي يقوده الى سبل الرشد والخير والفكر هو إعمال العقل في الأشياء وصولا الى معرفتها, فمنذ البداية اصغى نعيمة الى قلبه فآمن بنفسه وآمن بالكائنات جميعها ولم يكتف بالإيمان العاطفي وانما توكّأ على عقله يحل له الأسباب والعلل.
من الناحية العاطفية, يظهر بوضوح أن السلوك الحذر لنعيمة وخوفه من الخطيئة قد جذبا نمط حياته الريفية المحافظة, وقد شبهت بـــ"حياة الرهبان في الدير", فكانت معرفة نعيمة بالنساء متأخرة نتيجة لمعاناته النفسية والروحية, وتمت من خلال احتكاكه الفعلي بالنساء من خلال "فاريا", المرأة الأوكرانية المتزوجة التي قدمها له شقيقه إليوشا في عام 1908. بينما حاول الأديب بكل جهده التفكير في العواقب السلبية للمعصية.
إذن, كان ميخائيل نعيمة شمعة أضاءت مصباح الأدب, وكان قيمة مضافة, فقد أغنى المكتبة العربية وأثراها بفكره وأدبه؛ فكم نحن بحاجة اليوم لأمثاله ولأمثال تفكيره العميق.