كتب روني عبد النور في الصفا نيوز-
عادةً ما يُنظر إلى الوقت من زوايا مفهومية ثلاث: الثابت والمتحوّل والحقيقي. فهو ثابتٌ لأنه حاضرٌ في مطلق الأحوال؛ ومتحوّلٌ لأنه يتغيّر باستمرار؛ أمّا كونه حقيقةً, فمردّه لتشبُّثنا به كعامِلٍ مؤثّرٍ في كلّ ما نفعل. ولمحوريّته كأحد مرتكزات الوجود (من منظور موضوعيّ) وحياتنا اليومية (من منظور ذاتيّ), لا تنفكّ الدراسات تتناوله بآثاره على ما يدور وآثار ما يدور عليه. الصحة البدنية نموذجاً.
أظهرت دراسة إيطالية في 2020, وردت في مجلة National Library of Medicine, أنّ الاضطرابات التي طالت روتين الناس في ذروة جائحة كورونا أدّت إلى تشوّهات واسعة النطاق في مدى سرعة إدراكهم للوقت وتَذكُّرهم له. فارتفاع وتيرة التشوّهات تلك ارتبط باشتداد حدّة الوباء - كما هي الحال بإزاء الاضطرابات النفسية والاكتئاب والتوتّر – حيث أنّ غالبية النتائج لفتت إلى تنامي إدراك شائع بأن الوقت مرّ بصورة أبطأ أثناء الجائحة.
بدورها, ذكرت دراسات سابقة إننا غالباً ما ندرك التباطؤ الزمني خلال الأحداث غير المديدة نسبياً لكن ذات الوقع المؤلم على مختبِريها - من التصادمات المرورية إلى الحروب والأوبئة. ويتحدّث العلماء هنا عن علاقةٍ ما بين الإثارة الجسدية والذاكرة وتحكُّم ذلك بمعدّل تحريك مستويات هرمونات التوتّر تحديداً. فالأحداث المسبّبة للإثارة تميل إلى رفْد الذكريات بأعداد أكبر ممّا يُعرف بالعلامات الزمنية التي تُفكّك التدفّق الرتيب للتجارب المؤطَّرة في الذاكرة.
وهكذا, من خلال فكفكة تدفُّق المحتوى المديد وغير المتمايز إلى لحظات عصيّة على النسيان, تعمل العلامات الزمنية – بما يشبه مطبّات السرعة, بحسب توصيف العلماء - على إبطاء سرعة إعادة تشغيل العقل للمحتوى السرْدي للذكريات, وبالتالي تذكُّر الوقت في إطارٍ أكثر تباطؤاً. وكما أن شعوراً كهذا لا يأتي من فراغٍ, فلِتبعاته صدىً هي الأخرى. إذ تمكّن العلماء, للمرّة الأولى, من إثبات كيف يمكن لتَصوّرنا لمرور الوقت التأثير بشكل مستقلّ على كيفية تعافينا من الإصابات.
لطالما افترض العلماء وجود روابط ذات طبيعة فيزيولوجية, في المقام الأول, بين التعافي من الإصابات ومستويات التوتّر, حيث يُسهم الأخير في عرقلة عملية التعافي. لكن هذه الدراسة, التي نُشرت في مجلة Nature Scientific Reports, تعيد تعريف فهمنا للعلاقة بين العقل والجسم ودورها في إدارة الألم, خصوصاً. وهي تثبت كيف للوقت المُدرَك أن يؤثّر بوضوح على معدّلات الشفاء الجسدي. لا بل تكمن فرادتها ودقّة نتائجها في التلاعب بالوقت المُدرَك في بيئة مخبرية خاضعة للرقابة الدقيقة.
في التفاصيل, وجد باحثون من جامعة هارفرد أن التهاب الجلد الناتج عن العلاج بالحجامة قد تضاءل بشكل ملحوظ لدى الأشخاص الذين لاحظوا مرور وقت أطول منذ تَعرُّضهم للالتهاب. والعلاج ذاك يُسبّب توسّعاً في الأوعية الدموية تحت الجلد, حيث تؤدّي زيادة تدفُّق الدم وتراكُمه مع سوائل أخرى في المنطقة المستهدَفة إلى ظهور كدمات لاحقاً.
وقام الباحثون بتطبيق الاختبار على 33 مشاركاً - لم يتم إبلاغ أي منهم بأن تَصوُّرهم للوقت شكّل محور الدراسة - تتراوح أعمارهم بين 18 و50 عاماً. أولاً, خضع جميع المشاركين للعلاج بالحجامة في مكان محدَّد من الذراع تِبعاً لتعليمات دقيقة من الفريق البحثي. ثم طُلِب منهم تباعاً: التقاط صورة للعلامة التي خلّفها الكوب المستخدَم في العلاج على الفور؛ الإجابة على بعض الأسئلة ذات الصلة؛ التقاط صورة أخرى بعد مرور 30 دقيقة؛ ثمّ الإجابة على مزيد من الأسئلة.
بعد تلقّي العلاج, جرى التلاعب بإدراك المشاركين للوقت في ثلاث جلسات, مدّة كل منها 28 دقيقة. في جلسة "الوقت البطيء", تمّ دفع هؤلاء للاعتقاد بأنّ نصف تلك الدقائق فقط قد انقضى؛ وفي جلسة "الوقت العادي", لم يتمّ التلاعب بإدراك الوقت نهائياً؛ أمّا جلسة "الوقت السريع", فشهدت دفْع المشاركين للاعتقاد بأن ضعف الوقت قد مرّ.
من بين المشاركين الـ32 الذين أنهوا الجلسة, سجّل 5 منهم فقط متوسّط معدّل شفاء بواقع 8 درجات أو أكثر عندما تصوّروا أن الجلسة استمرّت 14 دقيقة. وحقّق 8 مشاركين في اختبار "الوقت العادي" معدّل شفاء بواقع 8 درجات أو أكثر. بينما اكتسب 11 مشاركاً معدّل شفاء مرتفع لدى ملاحظة استغراق الجلسة 56 دقيقة.
في الواقع, أثارت العلاقة المعقّدة بين العقل والجسم اهتمام الباحثين على الدوام. فمجرّد التفكير بتلقّي العلاج قد ينعكس إيجابياً على نتائجه أحياناً. وهذا أحد أسباب استخدام الأدوية الوهمية في التجارب, لأهمية العقل كأداة شفاء فعّالة. إذ يكمن تأثير الدواء الوهمي – الذي يرافقه نشاط أكبر في منطقة التلفيف الجبهي الأوسط في الدماغ - بتحقيق تفاعلٍ عصبيّ - بيولوجيّ معقَّد يشمل زيادة في الناقلات العصبية المحفّزة للسعادة وفي نشاط مناطق معيّنة من الدماغ.
لكن بحث جامعة هارفرد يأتي ليشير إلى أن معتقداتنا المجرّدة حيال الوقت وعمل الجسم يمكن أن تؤثّر مباشرة على صحتنا البدنية. فهو كناية عن نقطة انطلاق لكشف تعقيدات بيولوجيا العقل والجسم. كما يتحدّى وجهات النظر السائدة طويلاً حول العوامل النفسية وانعكاساتها على الصحة البدنية. والأهمّ أنه يعبّد الطريق لفهم مستقبليّ أفضل للآليات الأساسية لنتائجه الأوّلية.
والحال أن دمْج مفهوم وحدة العقل والجسم في الأبحاث المستقبلية قد يحدث ثورة في عالَمي الصحة والعلاجات. إذ وفق ما خلص إليه الباحثون, "إهمال دور العقل عند محاولة فهْم أي سلوك جسدي هو أمر محفوف بالمخاطر, في أحسن الأحوال, ومتهوّر في أسوئها". والخلاصة التي يُبنى عليها, برأي العلماء, هنا يمكن إيجازها بما يلي: لا يجب إطلاقاً فصْل تأثير الوقت على الشفاء الجسدي عن تجربتنا النفسية لمفهوم الوقت بذاته.