من ذكريات كأس العالم أول ذكرى تقفز إلى ذاكرتي عند الحديث عن كأس العالم لكرة القدم هي ذكرى مونديال إيطاليا في العام ١٩٩٠, وقد كنت في حينها أبلغ من العمر ثمانية سنوات. أذكر أننا في حينها كنا لا نزال نقيم في شتورة بربوع الوطن وأن خالتي زكية, المغتربة حتى اليوم في البرازيل, كانت وقتئذٍ في زيارة للوطن مع ولديها خالد وغسان, وكم كان حزن الجميع كبيرا لخسارة البرازيل أمام الأرجنتين في الدور الثاني, وعدم تأهلها للأدوار النهائية. أذكر أيضًا في ذلك العام أن معظم الناس في لبنان كانوا منقسمين في غالبيتهم بين تشجيع منتخبين: البرازيل بالدرجة الأولى وألمانيا بالدرجة الثانية, وكان هناك مشجعون لمنتخبات أخرى كإيطاليا والأرجنتين, بدرجة أقلّ. فكانت الأعلام البرازيلية والألمانية تغزو لبنان. إلا أنني أذكر أن جهاد, إبن جارنا أبي وليد جبارة في شتورة, كان يضع علم مصر على دراجته النارية, ففي تلك البطولة كان أبناء الكنانة من ممثّلي العرب في كأس العالم. وكنتُ, في تلك السن الصغيرة, أعتقد أنه كان ينبغي على كل اللبنانيين أن يشجعوا المنتخب المصري لأنه يمثلنا, قوميا ودينيا, أكثر بكثير من المنتخبات الأمريكية والأوروبية. في تلك الفترة لم أكن أعرف شيئا عن مقولة إبن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب, ولكن فطرتي كطفل كانت تأبى أن نترك إخواننا في الدين والقومية واللغة للهتاف للأجانب. هذا رغم الإرتباط الكبير الذي يجمعني بالبرازيل, فأنا, وإن كنت ولدت في لبنان, فإن نشأتي الأولى كجنين كانت على أرض البرازيل, حيث تزوّج والداي. وفي العام ١٩٩٤, جرت لأول مرة في التاريخ بطولة لكأس العالم لكرة القدم على أراضي الولايات المتّحدة الأمريكية. وكانت البرازيل تسعى, بكل قوتها, للفوز بلقب تلك الدورة. فصيام الفريق الأصفر عن التتويج بالبطولة كان قد لامس الربع قرن, إذ كانت دورة ال١٩٧٠ في المكسيك آخر بطولة كأس عالم تفوز بها البرازيل قبل ال١٩٩٤, وذلك في أيام أسطورة الملاعب بيليه ورفاقه. وكنت في العام ١٩٩٤ أبلغ الثانية عشر من عمري, وكان اهتمامي بعالم كرة القدم في تصاعد مستمر, بتأثير خاص من والدي الذي كان ولا يزال من عشاق كرة القدم, وبتأثير من الجو العام في لبنان الذي كان شيبه وشبابه آنذاك يهتمون بشغف بأكثر الرياضات شعبيا في العالم. ألححنا أنا وشقيقي محمد على والدي بأن يشتري لنا علمًا كبيرًا للبرازيل لكي نرفعه على شرفة شقتنا في شتورة, فما كان من والدي إلا أن اشترى أربعة أعلام: علمين من الحجم الكبير للشرفة وعلمين من الحجم الصغير لسيارته. لم تكن الأعلام الأربعة برازيلية, وإنما كان علمان برازيليان واثنان لبنانيان, وسط استغرابنا. لكن والدي قال لنا في ذلك الحين أنه إن كان من غير اللائق أن نرفع أعلامًا غير علم وطننا على أرضه, فلنرفع, على الأقل , بجوارها علم وطننا. وهذا بخلاف معظم الناس في لبنان حينذاك, فالأعلام البرازيلية والألمانية والإيطالية والأرجنتينية كانت ترفرف عاليًا في كل مناطق بلاد الأرز, وسط حضور خجول للعلم اللبناني. (بلال رامز بكري)