مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة, المستمر منذ أكثر من شهر, علت الدعوات لمقاطعة الشركات الإسرائيلية والأجنبية الداعمة للاحتلال. الدعوات جاءت وسيلةً شعبية للتعبير عن رفض سياسات الدول والشركات العملاقة الداعمة لـ"إسرائيل" في عدوانها على قطاع غزة, في وقتٍ يُواجه دخول المساعدات الإغاثية والعلاج عبر المعابر الكثير من العقبات.
بعد انطلاق ملحمة "طوفان الأقصى" شهدت العديد من الدول العربية والأوروبية حملاتٍ لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية, ومنتجات الشركات الأميركية والأوروبية الداعمة للاحتلال.
في مصر, بدأت الدعوات للمقاطعة عبر منصات التواصل كنوعٍ من التضامن مع أهالي القطاع, نظراً لإغلاق معبر رفح وصعوبة دخول المعونات والمساعدات الإنسانية, وقمع التظاهرات والفعاليات, وكنوعٍ من التعبير عن غضب المصريين من الانتهاكات في حق الفلسطينيين.
وتوسّعت حملات المقاطعة, وتبنتها مؤسسات ونقابات مصرية, آخرها نقابة المحامين, التي دعا مجلسها, نهاية الشهر الماضي, لتبني سياسة المقاطعة, كتعبير عن الغضب بسبب الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها "جيش" الاحتلال بحق أهالي غزة.
في الأردن, تزايدت تحرّكات النقابات المهنية ولجان مقاومة التطبيع في الأردن لتوسيع نطاق حملات مقاطعة السلع الإسرائيلية, رداً على العدوان على قطاع غزة, لتطاول شركات ومؤسسات داعمة لـ"إسرائيل" وتتعامل معها, بحيث لا تقتصر "القوائم السوداء" على شركات محلية وإنما إقليمية وعالمية.
في العراق التي تحظر استيراد البضائع الإسرائيلية أصلاً, جرى توسيع المقاطعة التي هدفت اليوم إلى تقويض العلاقات العراقية مع الدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي, إضافة إلى التشديد على منع دخول المواد من الشركات التي تدعم "إسرائيل", ومنها الشركات الأميركية الغذائية.
وشهدت الكويت أيضاً, حملاتٍ عفوية ومنظمة من أجل المقاطعة, وذلك من خلال مقاطعة المحال والسلاسل التجارية التي يعرف عنها دعمها للاحتلال الإسرائيلي.
وانتشرت في الشوارع الكويتية حملة تحت عنوان: "هل قتلت اليوم فلسطينياً؟" وأسفله وسم #مقاطعون مصحوباً بصور لأطفال غزة تعكس معاناتهم جرّاء العدوان, وهي الرسالة التي تفاعل معها الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي, مع العلم أن موقف الكويت دائم ومبدئي تجاه القضية الفلسطينية بدءاً من القيادة السياسية مروراً بمجلس الأمة وانتهاء بعموم الشعب الكويتي.
في سلطنة عمان, انطلقت دعوات شعبية على أرض الواقع وفي مواقع التواصل الاجتماعي للمقاطعة الاقتصادية لـ"إسرائيل" وداعميها, مساهمين في نشر ثقافة ووعي المجتمع بالمنتجات المحلية, والتي يشكل استهلاكها فارقاً جيداً حتى على الاقتصاد المحلي.
في تونس, تحوّلت حملة مقاطعة السلع الأوروبية التي تدعم العدوان إلى ملفٍ شعبي, حيث يقود نشطاء حملات على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً عبر وضع قوائم السلع المشمولة بالمقاطعة, بينما أعلنت جمعيات ومنظمات مدنية أيضاً مقاطعة برامج التعاون مع ممولين ومنظمات أوروبية وأميركية أيّدت العدوان على غزّة.
في الجزائر, اتسعت رقعة الدعوة لمقاطعة المنتجات والشركات التي تدعم "إسرائيل" في العدوان على غزة, بإعلان الكثير من أرباب المراكز التجارية الكبرى في الجزائر بوقف تسويق العديد من العلامات التجارية مؤكدين توفير بدائل تركية, صينية وروسية وحتى بدائل محلية كنوع من الاعتراض ضد الدعم الغربي للاحتلال.
كيف أطلقت الانتفاضة الثانية "طوفان المقاطعة"؟
تُعرف المقاطعة باعتبارها سلاحاً فعالاً يسعى إلى النبذ الجماعي والمنظّم للكيان الإسرائيلي وداعميه. وفي القضية الفلسطينية, فإنّ المقاطعة تهدف إلى مقاومة الاحتلال والاستيطان والأبارتهايد الإسرائيلي من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة للشعب الفلسطيني.
في السابق, لجأت المنظمات العمالية إلى المقاطعة كتكتيك للحصول على أجور وظروف عمل أفضل. ومن أشهر الحملات التي أتت أُكلها تلك الحملة التي نظّمها ناشطون في جنوب أفريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري, والتي دعت الحكّام والشعوب إلى مقاطعة منتجات جنوب أفريقيا. وبعد سنوات من النضال, انتصرت هذه الحملة عام 1994, واستطاعت جذب الكثير من الشعوب إليها.
أما في فلسطين المحتلة, فنشأت فكرة مقاطعة "إسرائيل" قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000, ولكن الانتفاضة كانت بمنزلة حافز رئيسي لإطلاقها بشكلٍ رسمي, فقد أدّت إلى تصاعد الوعي العالمي بانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
وتزامناً مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية, انتقلت ثقافة المقاطعة إلى الشعوب العربية والأجنبية, إذ علت الدعوات الشعبية لمقاطعة منتجات الشركات الكبرى الممولة والداعمة لـ"إسرائيل". وعام 2005, أصدر ممثلون عن المجتمع المدني الفلسطيني نداءً تاريخياً موجهاً إلى شعوب العالم, يُطالبهم بدعم مقاطعة "إسرائيل" لكونها شكلاً رئيسياً من أشكال المقاومة الشعبية السلمية.
وتهدف حركة المقاطعة (BDS) Boycott, Divestment and Sanctions بالدرجة الأولى إلى وقف التعامل مع "إسرائيل" ومقاطعة الشركات الإسرائيلية والدولية المتواطئة في انتهاك حقوق الفلسطينيين, وتطالب بإنهاء الاحتلال وسحب الاستثمارات والضغط على المستثمرين مع الشركات الإسرائيلية والدولية المتورطة في الجرائم.
المقاطعة ثقافة وليست ردّ فعل
بدوره, قال منسّق تجمع "اتحرّك" لدعم المقاومة ومجابهة التطبيع من الأردن محمد العبسي للميادين نت إننا شهدنا في البلدان العربية خلال فتراتٍ سابقة العديد من موجات المقاطعة. مثلاً عند احتلال العراق عام 2003, علت الأصوات لمقاطعة البضائع الأميركية. وفي حرب تموز في لبنان وفي الحروب الإسرائيلية ضد غزة, انتشرت دعوات لمقاطعة الشركات والبضائع الإسرائيلية.
ولفت العبسي إلى أنّ الأمر المختلف في الدعوة للمقاطعة هذه المرّة هو أنّ هناك تجاوباً شعبياً كبيراً, فالشعوب العربية باتت تتعامل مع المقاطعة كمقدّمة لثقافة يومية, لا كردّ فعل ناجم عن عدوان.
كما أنّ الشركات العالمية الداعمة لـ"إسرائيل", ومنذ اليوم الأول للعدوان, تكشّف موقفها بشكلٍ أكبر, فهناك شركات مُصنّفة على أنّها داعمة للاحتلال نشرت بشكلٍ واضح في صفحاتها في مواقع التواصل أنّها تدعم "إسرائيل" بوجبات غذائية. هذا الأمر استفزّ الشعوب العربية, معتبرين أنّه تحدٍ لهم, وفق العبسي.
وأكّد أنّ الهدف من المقاطعة ليس إحداث خسائر للوكلاء في البلدان العربية, بل إجبارهم على إقناع الشركات الأم بالانسحاب من الكيان الإسرائيلي ووقف الدعم المالي لمؤسساته كافّة.
كيف تشكّل المقاطعة تهديداً استراتيجياً لـ "إسرائيل"؟
وفقاً للتصريحات الرسمية للحكومة الإسرائيلية, فإنّ حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) تُعد "خطراً استراتيجياً" على منظومتها الاستعمارية. وصل هذا الخطر إلى مراحلٍ مُتقدّمة, إذ اتهمت وزيرة القضاء الإسرائيلية اييلت شاكيد عام 2015 حركة المقاطعة بـ"العداء للسامية", وأنّها تُريد محو "إسرائيل" عن "الخريطة", فيما تزايدت الدعوات للضغط على أوروبا من أجل وقف ما قالت إنّه "تمويل للحركة".
وعن القلق الإسرائيلي المُتزايد من حملات المقاطعة ما بعد انطلاق ملحمة "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي, قال محلل الميادين للشؤون الفلسطينية والإقليمية ناصر اللحام إنّ "BDS" تقلق "إسرائيل", ولا سيما أنّ تلك الحركة تضمّ أجانب كثُراً ويهوداً. ولمحاربة الحركة, طلبت "إسرائيل" من وزارة الخارجية الأميركية مساعدتها, كما وضعت خطّة أمنية سياسية لمحاربتها. وقد هاجم نتنياهو "BDS" شخصياً أكثر من مرّة.
وعدّ اللحام سلاح المقاطعة من أشدّ القضايا خطورةً على "تل أبيب". وعلى الرغم من أنّ حركة المقاطعة سلمية, فإنّها وصلت إلى أعلى الدرجات في رفع شأن القضية الفلسطينية والحطّ من قيمة الاحتلال الإسرائيلي في العالم.
ولفت إلى أنّ "BDS" انتصرت بشكلٍ كاسح على "إسرائيل" منذ عام 2015, داعياً الدول العربية إلى مقاطعة السلع التي تدعم الاحتلال لوجود سلع أخرى بديلة في الأسواق, مؤكداً أنّ للمقاطعة آثاراً عميقة ستظهر بشكلٍ جلي بعد انتهاء الحرب الدائرة.
مقاطعة "إسرائيل" تمتد إلى مستوياتٍ عالمية جديدة
وعن حملات مقاطعة الشركات الكبرى الداعمة لـ"إسرائيل" في الدول الأوروبية, قال محلل الميادين للشؤون الأوروربية والدولية, موسى عاصي, إنّ الحملة الأخيرة للمقاطعة عمّت هذه المرّة الدول الأوروبية, ووصلت إلى فرنسا وسويسرا.
أما الأمر اللافت فهو أنّ المتظاهرين في تلك البلدان الأوروبية رفعوا للمرّة الأولى ربما شعاراتٍ من أجل مقاطعة الشركات الغربية التي تُساهم بدعم "إسرائيل, وخصوصاً بعدما قرّر بعض هذه الشركات, ولا سيّما "ماكدونالدز وبيتزا هات", دعم الجنود الإسرائيليين بوجباتٍ مجّانية خلال الأيام الأولى من الحرب.
من ناحيته, قال منسّق تجمع "اتحرّك" لدعم المقاومة ومجابهة التطبيع من الأردن محمد العبسي: "في السابق, حركة المقاطعة حققت إنجازاتٍ كبرى في أوروبا, وألحقت خسائر كبرى بالشركات الداعمة لـ"إسرائيل", وبالتالي, العديد من الشركات أوقفت دعم كيان الاحتلال, وأزيلت من قائمة المقاطعة".
ما هي "المقاطعة الحِرَفيّة"؟
حول مقاطعة "إسرائيل" وداعميها, قال الكاتب والباحث السياسي أكثم سليمان للميادين نت إنّ فكرة المقاطعة قديمة وقائمة على عدم التعامل مع العدو, ولكن الدعوات التي تعلو اليوم لمقاطعة "إسرائيل" وداعميها مع استمرار العدوان على غزّة, جاءت نتيجة العامل النفسي بالدرجة الأولى, فالشعوب جميعها ترفض جرائم "إسرائيل", وهي غاضبة من تصرّفاتها. أما العامل الآخر, فهو عامل الضخ الإعلامي.
ودعا سليمان إلى بلورة كلمة "مقاطعة" على المدى البعيد, مُنتقداً تغيير السياسات بمجرّد وقف إطلاق النار في غزة, شارحاً أنّ حروباً عدّة شنّت على قطاع غزة. وفي كل حرب, كانت دعوات المقاطعة تعلو, ولكن ما إن تنتهي الحرب حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه في السابق.
وطالب أيضاً بإيجاد بدائل أفضل للسلع التي نريد مقاطعتها. ومن أجل المساهمة في النجاح الفعلي للمقاطعة, دعا إلى ما سمّاه "المقاطعة الحِرَفيّة" التي تقوم على تخطيط بعيد المدى بمشاركة خبراء اقتصاديين وقانونيين وسياسيين من أجل تحديد أطر المقاطعة في المجالات كافّة للوصول إلى نتائج ناجعة.
(الميادين)