منذ بدء المشاورات مع صندوق النقد الدولي اعتمدت بعثة الصندوق خطة شطب الودائع واستندت إلى أسلوب يفتَقد للشفافية, للتمويه عن رغبتها الرامية الى إلغاء معظم الودائع الدولارية ورأسمال المصارف, ضمن شعار معالجة الأزمة المالية واعتبارها باطلاً حالة إفلاس, وعرضت طرحاً استنسابياً لحماية صغار المودعين فقط الى أقصى حدّ ممكن بما تبقّى من الودائع في المصارف القادرة على الاستمرار, من دون تعريف من هم صغار المودعين وبغض النظر عن ثرواتهم الاخرى. وقد تُردّ الودائع المتبقية بالليرة خلال فترة متوسطة الأجل.
كان من الأجدى ان يكون موقف بعثة الصندوق جلياً منذ بدء المشاورات, وان تعلن جهاراً ان معظم تكاليف الخسارات المزعومة في الخطة ستقع على عاتق المودع, من خلال شطب كل الودائع بالدولار, وسيكون دور الدولة محدوداً للتعويض عنها. فلماذا الخوف وتملّص البعثة والحكومة من حقيقة نواياهما, وإطالة فترة المشاورات وتوجيه التهم نحو النائب والمواطن؟ وقد يكون لتكليف لبنان المزيد من الخسارات؟
وقد بدا التمويه والاستنسابية في الخطة المالية للصندوق والحكومة لشطب الودائع (وهو خرق للدستور وقانون النقد والتسليف) في كل من ركائز الخطة, مبادئ الخطة, وخطوات تطبيق إعادة تكوين رأسمال مصرف لبنان وإعادة رسملة المصارف. ومثالاً على ذلك طرحت الخطة: "حل الترابط بين ميزانيات المصارف التجارية - الديون السيادية - وميزانية مصرف لبنان, وإلغاء معظم التزامات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية تجاه المصارف" ما يلغي معظم الودائع. كما طلبت ألاّ يُستخدم دعم الحكومة للتعويض عن الخسائر المزعومة سوى لإعادة رسملة جزئية لمصرف لبنان بـ 2.5 مليار دولار فقط. واعلنت معظم الكتل النيابية رفضها لهذه الخطة, وانّ احترام الدستور والقانون واجب في كل الأزمنة.
كما انّ فريق الحكومة المناط بالخطة ادّعى باطلاً انّ الخطة تحافظ على 90% من الودائع, وانّ شطب ودائع المصارف لدى مصرف لبنان لا يعني انّ هذه الاموال قد تُشطب من الودائع في المصارف خلافاً للمبدأ الحسابي البسيط وهو: انّ اي شطب لأصول المصارف (كودائعها في مصرف لبنان) يجب ان يقابله شطب في التزاماتها نحو المودع (اي الودائع) ورأسمال المستثمرين, ليبقى التوازن في ميزانيات المصارف. فالحكومة ايضاً تمارس التمويه في رغبتها لشطب الودائع.
اعدّ صندوق النقد سيناريو لتبرير شطب الودائع يستند الى ضرورة تحقيق استمرارية الدين, وُثّق في تقرير مشاورات المادة الرابعة (حزيران 2023) قَدّر فيه حجم الدين العام إلى الناتج المحلي بـ 512% في 2023, من خلال تقليص الناتج المحلي بالدولار بـ 25% الى 16 مليار دولار, واحتساب الدين العام بالعملة المحلية بالدولار على أساس السعر الرسمي (1500 ليرة للدولار) ليصل مجمل الدين إلى 83 مليار دولار حسب النسبة المذكورة اعلاه. واقترح الصندوق ضرورة خفض نسبة الدين الى الناتج فوراً الى 110% في 2024, من خلال شطب اصول المصارف (معظمها التزامات القطاع العام) وودائع ورأسمال المصارف المقابلة, لكي يحقق لبنان مستوى للمديونية يُخوّله خدمة دينه وتأهّله للاقتراض من صندوق النقد (البند 13 في تقرير المادة الرابعة). اي انّ الشطب من الدين العام سيوازي 63 مليار دولار مقابل الحصول على تسهيل مالي من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار في اقصى حدّ خلال 4 سنوات.
انّ الرقم الفعلي للدين لا يتعدّى الـ 33 مليار دولار, ويتكَوّن معظمه من اليوروبوند (ومنها 5 مليارات لدى مصرف لبنان), بعد انخفاض سعر الصرف بـ 98% وتبخُّر معظم الدين المحلي بالعملة الوطنية الى نحو مليار دولار(غالبيتها لدى مصرف لبنان). وبغياب تقديرات دقيقة للناتج بالدولار واستبعاد التقديرات العشوائية السائدة, من المتوقع ان يبقى الناتج بحدود 30 مليار دولار (وليس 16 ملياراً كما ورد في تقرير المادة الرابعة للصندوق) اي بخسارة توازي 40% خلال الأزمة في الفترة 2020 الى 2021 لتوقف انخفاض الناتج بدءاً من عام 2022, حسب تقديرات البنك الدولي وصندوق النقد, فتصبح نسبة الدين بحدود الـ 110% باستثناء متأخّرات الفوائد. وهذا المستوى من الدين قابل للاستمرار مع الإصلاح ومع تحقيق فائض مالي أولي. وقد تصل هذه النسبة الى 67% مع استثناء ما لدى مصرف لبنان من يوروبوند وقيمة الخصم الذي حصلت عليه المؤسسات المالية الدولية خلال شرائها المزيد من الدين العام خلال الأزمة.
لذا, إنّ الادّعاء بشطب الودائع للوصول الى دين ووضع مالي قابلين للاستدامة لا يعكس الواقع. وتجدر الاشارة الى طلب بعض المدراء التنفيذيين بضرورة إعادة النظر بالخطة وتخفيف عبء الإصلاح على المودعين (الفقرة 21 من تقرير مشاورات المادة الرابعة - 30 حزيران 2023).
الفريق المناط بالشأن الاقتصادي في الحكومة يدعو الى ضرورة اتخاذ إجراءات مباشرة لمعالجة الأزمة لكي لا نندم في المستقبل. لنرى اولاً اذا كان قادراً على أخذ القرارات الضرورية, والتي لا تحتاج الى قوانين, وأولها التحرير الكامل لسعر الصرف, ليشمل جميع المعاملات الخاصة (بما فيها المصارف), والعامة للتوصل الى توازن للأسواق المالية والغاء سعر الليرة الرسمي (15000 ليرة مقابل الدولار الواحد) الذي يستمر بابتزاز المودع. كما قد يبدأ بإعادة جدولة الالتزامات والاصول المالية الداخلية للمصارف والحكومة. فهل الحكومة جادة بالبدء بالإصلاح؟
انّ اي خطة اصلاحية يجب ان تحفظ حقوق المواطن والمستثمر وبخاصة المودعين, وتكون متكاملة وتستند الى التسلسل الزمني الفعّال في التنفيذ وتستهدف استعادة الثقة والصدقية اللتين فُقدتا كلياً, وكذلك لدعم النمو الاقتصادي. انّ اي خطة تستند الى شطب الودائع كأساس ستؤدي الى تدمير مستدام وممنهج للنظام المصرفي والاقتصاد, وهذا ما يحدث الآن.
لقد اخذت معظم الكتل النيابية الموقف الصائب بحماية الودائع, واعتبرتها ضرورية للحفاظ على الثقة بالجهاز المصرفي. انّ تَهجّم البعض في الحكومة على موقف النواب ادّى الى المزيد من فقدان الثقة بها من قِبل المجلس النيابي وكذلك المواطن. واقع الأمر انّ تمسُّك صندوق النقد والحكومة بمشروع حل بعيد جداً من الواقع ومدمّر قد ادّى الى صرف النظر عن الحلول البديلة الناجعة وبتأخّر الإصلاح لأربع سنوات.
من الواجب ان نُشيد بجهد الكتل النيابية التي أجهضت خطة الحكومة وحافظت على ودائع وحقوق المودعين وعلى الدستور. اما اتهامات الحكومة الباطلة الموجّهة للنواب والانزعاج من قِبل صندوق النقد لعدم إقرار القوانين فهي في الحقيقة تهرّب من الاعتراف بالفشل في حل الأزمة.
الكتل النيابية ترى بوضوح انّ الأزمة ليست أزمة افلاس كما يرى صندوق النقد, وانما ازمة سيولة وثقة. انّ الحل ليس بشطب الودائع ولا بإعادتها فوراً, لأنّهما يؤديان الى القضاء على المصارف ويعيد الاقتصاد كلياً الى اقتصاد الكاش. فالحفاظ على الودائع وتحرير سعر الصرف, وإعادة جدولة الودائع توفّر السيولة للمصارف وتعيد لها الثقة. كذلك تعتبر الكتل أنّه يجب انجاز التدقيق بحسابات المصارف قبل الافتراض بأنّها غير قابلة للاستمرار. وتدعو ايضاً الى تحسين ادارة القطاع العام برمته بتحقيق التوازن المالي فيه, وبخاصة في المالية العامة والمؤسسات. فالكهرباء وحدها توفر 3 مليارات دولار سنوياً على المواطن وتخفّض الانبعاث الكربوني من خلال تأمين الطاقة للمواطن على الأقل 20 ساعة او أكثر يومياً مع رفع التعرفة, الذي طُبّق فعلاً, وبتحسين الجباية (ولا فرق بأي عملة تتمّ الجباية). هذا يوازي ما يقدّمه صندوق النقد من قروض خلال أربع سنوات.
على الحكومة وكذلك صندوق النقد, ان يواجها عدم قدرتهما على تقديم الحل الناجع, وعلى مجلس النواب, بعد فشل الحكومة وانتهاء مهّمتها, ان يتولّى زمام المبادرة لطرح الحل البديل, لكي يخرج لبنان من ازمته, من خلال طرح مشروع قانون جديد لإعادة الانتظام المالي حسب المبادئ التي سبق ذكرها أعلاه.
(الجمهورية)