الآفاق الاقتصادية والتحديات للدول العربية في مجموعة "بريكس"
كتب سعـادة أ.د/ علي محمد صالح الخوري
أسفرت قمة مجموعة "بريكس", التي استضافتها مدينة جوهانسبرج في جنوب إفريقيا, عن قرار من شأنه أن يُعيد تشكيل ديناميكيات الخريطة الاقتصادية العالمية. وقد فتح قادة هذه المجموعة الأبواب أمام ثلاث دول عربية -تشمل الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية- للانضمام إليها, إلى جانب الأرجنتين وإثيوبيا وإيران, ابتداءً من عام 2024.
وتُعد مجموعة "بريكس", التي تتكوَّن في الأصل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا, تكتلًا دوليًّا للاقتصادات الناشئة يرى محللون أنه قد يؤدي دورًا مهمًّا في تشكيل المشهد الاقتصادي والسياسي والعالمي, ويقوض الهيمنة الغربية, وينهي نظام القطب الواحد.
وتهدف المجموعة, التي بدأت مفاوضات تشكيلها في عام 2006, وعقدت أول مؤتمر قمَّة لها في عام 2009, إلى تمتين العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين أعضائها, وتنسيق المواقف في القضايا العالمية والإقليمية, وتشكيل قوة محركة لنظام عالمي جديد. والمؤثرُ في هذا التكتُّل هو أنه سيغطي بأعضائه الجُدد 26 في المئة من مساحة العالم, ويضم 43 في المئة من سكانه, ويستحوذ على ما يقارب 30 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي.
الانتعاش المحتمَل في المنطقة العربية
قد يكشف الاندماج المرتقب للدول العربية في نطاق عمل مجموعة "بريكس" عن عدد لا يُحصى من المكاسب المحتمَلة, تأتي في مقدمتها المزايا التجارية والاستثمارية التمويلية, الكفيلة بتمكين خطط الإصلاحات الاقتصادية, وتنفيذ المشروعات القومية, وإتاحة مجالات كبرى لتوسيع رؤية التعاون الاقتصادي العربي, وتوحيد الاتجاهات والاستراتيجيات الاقتصادية العربية للتعامل مع الأزمات العالمية, بما يضمن تحقيق النمو الاقتصادي وأهداف التنمية المستدامة, ويُحسّن جودة النمو بتشجيع التنمية الاقتصادية المبتكرة القائمة على التكنولوجيا المتقدمة وتنمية المهارات.
وترتبط المكاسب الأخرى بأهداف المجموعة المرتكزة على تعزيز المشاركة, والتعاون بين الدول الأعضاء, وتحسين أوضاع الدول النامية والناشئة في جميع أنحاء العالم, سواء من حيث التمثيل في المؤسسات المالية الدولية, أو تحسين أداء النظام التجاري المتعدد الأطراف, وبيئة التجارة والاستثمارات الدولية التي تستهدف إعادة التوازن إلى النظام العالمي.
وقد تُهيّئ هذه العضوية الدول العربية للاستفادة من "بنك التنمية الجديد", الذي تديره دول المجموعة, ويبلغ رأس ماله 100 مليار دولار, ويمكن أن يمثل موردًا محوريًّا لتطوير البِنى التحتية, ولا سيَّما في المجالات الحيوية مثل النقل والطاقة, وخاصة في ظل توسع النفوذ والقدرات الإقراضية للبنك, وتركيزه على التنمية المستدامة, وتكنولوجيا الطاقة المتجددة, وهي مجالات تُعد حديث الساعة, وموضوعات دائمة ومؤرقة على طاولة القرار الدولية.
ويمكن لهذه الشراكة أن تعزز أيضًا نماذج التبادلات التجارية في الدول العربية للتحول نحو العملات المحلية وتدعيم السيادة المالية, وتقليل الاعتماد على الأنظمة النقدية الحالية المستندة في جوهرها إلى الدولار الأمريكي, في وقت تعاني فيه كثير من هذه الدول تراجع قيمة عملاتها المحلية أمام العملات الأجنبية, وشُح الدولار في أسواقها.
تحديات تلوح في الأفق
بينما تستعد الدول العربية للاندماج في النسيج الاقتصادي المؤثر لمجموعة "بريكس", فإنها تقف -بلا شك- على مقربة من الفرص الواعدة؛ ولكنَّ التحرك إلى الأمام نحو التحولات المطلوبة قد تحجبه تحديات محتمَلة تتطلب -بالضرورة- عدسة ذكية ومتوازنة لتقييم المشهد, وتجاوز التحديات, والاستفادة من الفرص.
ومن أبرز هذه التحديات مسألة المواءمة الاقتصادية؛ ففهْم كيفية تطابق الأهداف الاقتصادية للدول العربية مع أهداف دول "بريكس" الحالية يُعد أمرًا بالغ الأهمية؛ فقد تعوق الفروق الثقافية الدقيقة لدول "بريكس" التفاهم المشترك بمرور الوقت؛ ولذلك ستحتاج الدول العربية إلى التمعن في كيفية الاندماج بسلاسة في هذا النسيج الثقافي, أو إذا ما كانت هناك ديناميكيات تتطلب معالجتها مزيدًا من التنسيق والجهود الجماعية.
وقد تُشكّل البيئات التنظيمية عبئًا كبيرًا يفرض على الدول العربية تبني هياكل تنظيمية متناغمة مع الأُطر الراسخة لمجموعة "بريكس"؛ وربما تؤدي الاختلافات في هذا المجال إلى إعاقة العمليات والاستثمارات الفعَّالة بين دول المجموعة؛ ما يستلزم اتخاذ تدابير وطنية مختلفة لسد هذه الفجوات.
وفيما يخصُّ البنية التحتية التي تُعد محور التركيز المتكرر لمجموعة "بريكس"؛ فإن هناك تساؤلًا يطرح نفسه يتمحور حول جاهزية الدول العربية من حيث البنية التحتية والتكنولوجيا اللازمة للاستفادة من مبادرات البنية التحتية ضمن نماذج مجموعة "بريكس" الحالية, وإمكانياتها؛ وذلك سيتطلب النظر في وضع الاستراتيجيات المعززة للاندماج, والتكامل البَيْني على مستوى النظم.
وأما إدارة الموارد المشتركة, سواء الموارد البشرية أو رؤوس الأموال, فقد تُمثّل متاهة أخرى مملوءة بالتعقيدات؛ فصياغة الآليات اللازمة لضمان المنفعة العادلة لجميع الأعضاء, واستباق الصراعات المحتمَلة على الموارد, تُعد ضرورة لا يمكن إنكارها.
ونأتي إلى الجزء المحوري, وهو التحول نحو التداول بالعملات المحلية؛ فبرغم أنه قد يكون واعدًا؛ لكنه لا يكاد يخلو من تعقيدات؛ وسيتعيَّن على الدول العربية قياس مدى استعداد أنظمتها الوطنية للتعامل مع مثل هذه الآليات التجارية بفاعليَّة.
وبالتوازي مع هذه التحديات المتشابكة لا يمكن التغاضي عن أهمية مزامنة الاستراتيجيات الفردية للدول مع الرؤية الشاملة لمجموعة "بريكس", ولا سيَّما أن كل دولة ستأتي بخلفيَّتها السياسية, وسيكون من الأهمية بمكانٍ مواءمة هذه السياسات من أجل تحقيق النمو الجماعي.
ويطرح ذلك كله تساؤلًا آخر عن الكيفية التي ستتعاون بها الدول العربية مع نظيراتها في مجموعة "بريكس", وخاصة في وضع الاستراتيجيات المتعلقة بإدارة الأزمات, في ظل الطبيعة المتغيرة للمشهد العالمي, التي لا يمكن التنبؤ بها, والمملوءة بالمفارقات الاقتصادية والسياسية؛ ويؤكد ذلك أهمية إنشاء قنوات اتصال قوية وشفافة مع الأعضاء الحاليين في مجموعة "بريكس", انطلاقًا من أن ذلك حجر الأساس للتكامل الناجح بين الدول العربية والمجموعة.
ولا بدَّ من الانتباه إلى حقيقة أن الدول الجديدة المنضمَّة قد دخلت هذه المجموعة وهي تحمل خلافات سياسية تتراوح بين الحدَّة والكُمون, وخاصةً تلك المرتبطة بمواقفها واتجاهاتها بشأن الهيمنة الاقتصادية والسياسية, والسيطرة على الموارد الرئيسية مثل المياه والطاقة. وينبغي هنا العمل على مراجعة التحالفات الإقليمية والاقتصادية العالمية الناجحة, مثل الاتحاد الأوروبي, ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, ومجموعة السبع الصناعية؛ والاستفادة من تجاربها في بناء القدرات على احتواء الخلافات, وكبحها, وتحويلها قضيةً قابلةً للإدارة الهادئة, وبعيدًا عن الصخب الإعلامي والإثارة, وهنا قد تأتي هذه التحالفات الاقتصادية بحلول عجزت عنها السياسة.
الدول العربية وصناعة المستقبل
يمثل انضمام دول عربية إلى مجموعة "بريكس" محطة مهمَّة في الاقتصاد العالمي. ويجب على الدول العربية أن تعي أن هذا التكتل الجيوسياسي والاقتصادي يحمل تعهدات قد تعمل على إعادة ضبط الديناميكيات الاقتصادية العالمية, وهو ما يلقي بالمسؤولية على راسمي السياسات في المنطقة العربية لتوجيه التحالف بما يضمن نموها المستدام, والالتزام المشترك للدفع قُدُمًا بالسلم والأمن الوطني والدولي في الوقت نفسه. ولا بدَّ من توجيه الطريق إلى الأمام بالحكمة, وقِيم الانفتاح والتسامح والتعاون؛ فالتحالف بات -حتمًا- في طريق ستُعيد تشكيل معالم التجارة الدولية والتنمية والدبلوماسية, وسط ترقب دولي لتوسيع هذا التحالف, وانضمام دول جديدة إليه؛ ولا شكَّ في أن المستقبل المنتظر يعِد بإمكانيات وفرص لن يحُدُّها سوى الرؤى والمساعي.