تنهش آلات المرامل جبال وسفوح السلسلة الشرقية, وتقضم ما تبقّى منها رويداً رويداً من دون حسيبٍ أو رقيب. وتتكاثر أعدادها بشكل كبير, حيث أصبحت المنطقة ملاذاً لمن يملك المال ويريد الاستثمار في الطبيعة, ولمن يملك أرضاً خيّرة برملها تقصدها الشاحنات من مختلف الأراضي اللبنانية, لكنه غير قادر على استخراجه فيؤجرها مقابل بدل مادي.
منذ سنوات عدّة نشطت حركة المرامل في سلسلة جبال لبنان الشرقية بعد انتهاء الحرب السورية, حيث كانت المنطقة ساحة صراع, وشهدت عمليات خطف وتفجيرات, وبعد انتهاء الحرب وانكفاء المسلحين, وعودة المهجرين الى قراهم, ظهرت طفرة غير مسبوقة لإستخراج الرمول. ولذا فإنّ حركة الشاحنات لا تهدأ ليلاً نهاراً, وكأنّ المنطقة باتت مصنّفة للمرامل.
غبار الحرب والأزمة التي عانى منها المواطنون على مدار سنين, حلّ محله ومنذ أكثر من خمس سنوات غبار المرامل والكسارات المنتشرة في جبال السلسلة الشرقية, تأكل جبالها وتنهشها كما ينهش الذئب فريسته, وسط غطاء سياسي يسعى من خلاله البعض إلى تشريع تلك المرامل عبر إقتراح قانون يرمي إلى تنظيم عمل المرامل والكسارات وحصرها بالسلسلة الشرقية.
لم يكن عابراً المؤتمر الصحافي الذي كشف فيه نائب «حزب الله» علي فياض في حزيران عام 2018 عن إقتراح قانون لتنظيم قطاع المقالع والكسارات وتجميعها في السلسلة الشرقية, في ظل انعدام تطبيق المرسوم القديم الذي ينظم القطاع والصادر عام 2002, وعدم إلتزام العديد من الذين إستثمروا الأراضي في المناطق المحدّدة بالمرسوم وتلك غير المحددة بالمرسوم. وبحسب إقتراح فياض فإنّ المواقع المقترحة في المخطط التوجيهي الذي يتضمّنه الاقتراح, هي المناطق الحدودية كطفيل, بريتال, القاع, رأس بعلبك, عرسال, عين بورضاي, وقوسايا وعيتا الفخار في البقاع الغربي.
وفيما يختلف توزّعها على مختلف المحافظات اللبنانية, تحتل محافظة بعلبك الهرمل الرقم الأول في عدد المرامل المنتشرة في جرود السلسلة الشرقية, والموزّعة بين بلدات حام, طفيل وبريتال, على آلاف الدونمات من الأراضي, بما يزيد عن ثلاثين مرملة. وفيما عدد الكسارات لا يتجاوز أصابع اليدين, وتضمّ بلدة الطيبة واحدة منها, وأخرى في بلدة نحلة, وجرود بعلبك, ورأس بعلبك وعرسال التي تسيطر على مقالع الصخر والحجر الذي يستخرج منه حجر الزينة ويوزع على مختلف الأراضي اللبنانية, والتي تحتاج أيضاً إلى تراخيص تشرعن عملها.
إنتهاء المهلة
منذ حزيران عام 2019 انتهت المهلة المعطاة للمقالع والكسارات لتسوية أوضاعها, وحتى هذا التاريخ يعمل الكثير منها من دون تراخيص, وهي تصدر عن المجلس الوطني للمقالع والكسارات, المتوقف عن إصدارها. وقد شهدت طفرةً في انتشارها في ظل غياب قوننتها, ووضع البلد المنهار, وعدم القدرة على ضبطها, ولعب بعض الأحزاب دوراً في تغطيتها.
لم يبصر المخطط التوجيهي للمقالع والكسارات منذ العام 2002 مروراً بـ 2006, ثم 2009 وصولاً الى العام 2012, حيث كانت هناك محاولات لتحديد أماكنها, النور, وضمن هذا الإطار سألت مصادر متابعة: «هل المرامل والكسارات اليوم تعمل وفق شروط ومعايير ومواصفات محددة؟ وهل التزمت وزارة البيئة بتلك الشروط لإعطاء التراخيص السابقة؟ فالكثير منها يعمل تحت مسميّات: فقاشة, غربال, ستوكاج, استصلاح أراض, وهذا التفاف على القانون, ناهيك عن عمل بعضها على أراضي الجمهورية اللبنانية ومن دون دفع بدل مالي للدولة», مضيفةً بأنّ «هناك أيضاً عدم تدقيق في المناطق المصنّفة», سائلة «من صنّف السلسلة الشرقية منطقة للمرامل»؟
وفي وقت لا يزال اقتراح فياض ينتظر التشريع وصدور المراسيم التنظيمية, تشير مصادر مطلعة إلى أنّ عدداً من المتموّلين المحسوبين على جهة معينة قد اشتروا عقارات بمساحات خيالية في تلك المناطق وبأبخس الأثمان, كذلك ومنذ سنوات اشترى أحد نواب المنطقة السابقين مئات الدونمات من الأراضي بين طفيل وبريتال, وكأنّ هناك غاية من تجميع تلك المرامل في هذه المنطقة التي كانت خلال الحرب ممرّاً إلى الداخل السوري وتشهد على معظم عمليات التهريب, وعليه, هناك مصلحةٌ لمستفيدين من تشريع المرامل والكسارات في المنطقة.
بعد انتهاء الأزمة السورية وهدوء الجبهة, إرتفعت وتيرة إنتشار المرامل في السلسلة الشرقية بعدما كانت تقتصر على واحدة فقط, فانتشرت كالنار في الهشيم تأكل من الجبال وتوزّع البحص والرمل على مختلف المناطق اللبنانية فتقصدها مئات الشاحنات يومياً. وصحيح أنّ المنطقة فيها من الرمل والصخر ما يناسب المواصفات والأحجام المطلوبة, لكنّ الإقتراح المقدّم يبرّر حصرها بالسليلة بأنّ الأرض بشكلها الحالي غير مناسبة للزراعة, وبعد استخدامها واستخراج الرمال والصخور يصار إلى إعادة تأهليها لتصبح صالحة للزراعة, كذلك يتسلّح برأي خبراء بيئيين بضرورة الإبتعاد عن المناطق السكنية وبالتالي تركيز المواقع في السلسلة الشرقية.
وأضافت المصادر أنّ الإقتراح الذي يحدد المنطقة ضمن المخطط التوجيهي لتنظيم عمل هذا القطاع, واستحداث عشرات المرامل في السلسلة الشرقية, يخالف كل الشروط البيئية اللازمة وينتهك المواصفات الهندسية والفنية كما يعاني من غياب الرقابة, بسبب عدم اعتماد معيار التراخيص اللازمة لكون هذه الكسارات ستعمل وفق حصص مادية. وهذا الأمر يستدعي تحرك وزارة الداخلية, ووزراة البيئة بعدما سبق لوزير البيئة السابق فادي جريصاتي أن زار المنطقة واطّلع على عمل تلك المرامل ولكن دون اتخاذ أي إجراء.
«غير صحيح أنّ المنطقة ليست صالحة للزراعة», تؤكد المصادر عينها, وتشير إلى أنّ «جرود تلك المنطقة كانت مزروعة قبل بدء الأزمة السورية, التي حالت دون وصول أصحاب الأراضي إليها والإهتمام بأشجارهم ومحاصيلهم ما أدّى إلى يباسها, لكنّ الأهالي يصرّون على عودة الأرض كما كانت من قبل, مزهوةً بخضرتها, غير أن الغبار والدخان المنبعث من المرامل سيؤدّي إلى يباسها أيضاً». وتضيف المصادر: «المنطقة غنيةٌ بالمياه الجوفية والينابيع السطحية, ووجود تلك المرامل يؤثّر على الثروة المائية, ناهيك عن حال الطرقات هناك التي تصل القرى والبلدات الحدودية بالمحافظة وقد أصبحت غير صالحة حتى لعبور المشاة, فضلاً عن تغيّر معالم المنطقة بفعل العشوائية في العمل وإعادة تأهيل الأرض».
إنّ الفوضى التي تسود قطاع المرامل والكسارات تفرض الحاجة إلى تنظيم, لكنّ تحرّك الدولة بإتجاه أهالي القرى الحدودية واجب أيضاً, ويجب أن يكون هذا التحرك إنمائياً, لا عبر تشريع المقالع والكسارات التي تؤذي البشر والحجر, وفي حين يستفيد منها العشرات من متموّلين وحزبيين, يخسر معها الآلاف صحّتهم وأرضهم ومياههم.
عيسى يحيى
المصدر:نداء الوطن