كتبت مارينا عندس:
مهنٌ قديمةٌ عادت لتطفو على سطح الواقع الاجتماعي من جديد. مهنٌ كانت على طريق الانقراض عادت مجدّدًا بحللٍ جديدةٍ بموسمٍ جديدٍ ومع زبائن جدد.
على الأغلب أنّ معظمهم من الطّبقة الفقيرة, الذين كانوا من ميسوري الحال, نسبةً لارتفاع صرف الدّولار وتخطّيه الـ80 ألف ل. ل. وبهدف التوفير, مسحت مهنٌ قديمةُ الغبار عن أكتافها ومدّت يد العون للنّاس بهدف تلبية احتياجاتهم. ومن بين هذه المهن: المنجّد, و"الكندرجي", والخيّاط. فهل تجدّد نشاط المهن القديمة نتيجة الأزمة الماليّة الخانقة؟ وكيف يعيش هؤلاء النّاس في ظلّ ارتفاع جنون الدّولار؟
"الكندرجي:" يعود للبحبوحة
لمعرفة حقيقةً مصير ما يحصل مع المهن القديمة في لبنان, توجّهت الدّيار الى بعض أرباب العمل لمعرفة الاتي:
التقينا "الكندرجي" جوزيف ديب, ليخبرنا عن واقع هذه المهنة. وقال: تعلمّتُ هذه المهنة منذ الصّغر على يد عمّي عندما كان يعمل قرب صخرة الروشة في هذه المهنة طول فترة شبابه. أحببتُ هذه المهنة وعملتُ بها منذ عشرين عامًا. لم أقل أنّني بنيت قصورًا منها, لكنّني والحمد لله استطعتُ أن أتزوّج وأربّي طفلتين. ومع ارتفاع الدّولار, عدنا الى الوراء قليلًا. إلى أن اختلفت جميع المقاييس وأصبح الدّولار يلامس الـ80 ألف ل. ل. هذا ما جعل العديد من اللبنانيين يستصعبون شراء الأحذية والاستعانة بمن يساعدهم في إعادة الحذاء كأنه جديد, على اعتبار أنّ الحذاء الواحد لا يقلّ عن الـ 80 دولارا بحدّه الأدنى.
ويتابع: معظم الزّبائن الذين أتعامل معهم هم من الطبقى الوسطى الذين أصبحوا فقراء مع انهيار الوضع المالي الحاد. وهم بأمس الحاجة الى "كندرجي" يهتمّ بحذائه ويعيده كالسّابق.
ويختم: الأوضاع صعبة على الجميع والحمد لله أمورنا ميسورة علّ الله يتشّفع بنا وتمرّ هذه الأزمة على خير.
"المنجّد" يعمل مجدّدًا... وداعًا للحف الجديدة !
تقول رنا للدّيار إنّ ابنتها ستتزوّج في الصّيف. وطبعًا أكثر ما تفكر فيه العروس في هذه الفترة هو تأمين متطلّباتها وهو"جهاز العروس". ومن أهمّها الملاحف الصوف والكوفرلي والبطانيات وكل ما إلى ذلك. وتؤكّد للدّيار أنّ معظم هذه الأمور باتت تدفع بالدّولار الفريش, وبالأرقام الخياليّة. مثالًا على ذلك: الكوفرلي مع المخدّتين بـ 500 دولار, أما الملاحف فبـ 600 دولار. حرام صوف مجوز لا يقل سعره عن الف دولار وأكثر إذا كانت جودته عالية تحديدًا للمناطق الجبلية مثل حالة ابنتي لأنها ستسكن في الجبل. صدّقيني الموضوع ليس مزاحًا ولا مبالغًا به. تحضيرات العروس لم تعد سهلةً قطعيا, بل أصبح يحتسب لها مئة ألف حسابٍ. ولهذا السّبب, وللتوفير قليلًا, استعنتُ بمنجّدٍ أقوم بشراء القطعة التي تناسبني واللون الذي يعجبني, ليقوم المنجّد بتنجيد هذا القماش بسعرٍ لا يتخطّى مئة دولار. وهل من عيبٍ في ذلك؟ طبعًا لا وخصوصًا أنّ العمل على اليد ليس سوى بالفن والحرفيّة. بالإضافة إلى اختيار أجود أنواع القماش والصوف الذي يناسب ذوقي وذوق ابنتي وقدرتي الماديّة. وبالنهاية العمل اليدوي بات أفضل بكثيرٍ وأقلّ تكلفةٍ من شرائها من السّوق.
وفي طريقنا إلى البالة, قمنا بطرح بعض الأسئلة على أحد العاملين هناك, لنتفاجأ أنّه خياطً من الطراز الرفيع.
وقال ماجد في حديثه للدّيار, إنّ ما يبيعه في البالة كان يخيطه سابقًا لكنّها لم تكن تباع في السّابق بسهولة على اعتبارها "أغراض بالة". أمّا اليوم, فالوضع سيئ جدا. والسبب أنّ كل الذين كانوا يشترون من المولات أصبحوا يفكّرون مرّتين ما إذا كانوا قادرين على شرائها من البالة أم لا.
ويكمل: لم تكن النّاس تسأل عن أسعار القطعة في الماضي, بل كان الزّبون يرى ما إذا كان يعجبه هذا الغرض أم لا ليتبيّن لاحقًا أنّه لم يعد همّه سوى الادّخار وأصبحتُ الآن أبيع القطعة بـ 200 و400 ألف ل. ل. والقليل من الأرباح الإضافية إذا قمتُ بتطريزها من جديد, أو تغيير السّحب او إضافة زر..الخ
هذه حال الدّنيا, وهكذا عرف الواطن اللبناني. يجود بالموجود ويحاول دائمًا التّاقلم مع كل الظّروف. لا مجال لليأس ولا حتّى للاستلام. من لم يستطع شراء حذاءٍ جديد, يجدّد قديمه ليبقى مرتّبًا كما عرفه معظم العالم العربي. ومن أرادت شراء اللحف والسجادات هنالك المنجّد وهنالك البالة. ومن أراد تغيير قميصه, فليغيّر أزراره وينوّع قليلًا في "لوكه", علّ هندامه يبقى جيّدا واللبناني يبقى وسيمًا.
لأنّه ولو مهما ضاقت بنا الأحوال, نبقى من الِشعوب التي تعشق الموضة وتهتمّ بالتّفاصيل.
وفي نهاية المطاف, ولو أردنا إنكار ذلك, معظم حياة اللبنانيين تغيّرت بسبب الفقر, حيث 74% من السّكان يعيش في فقر الدّخل بأقل من 14 دولار أميريكي في اليوم. ويقدّر البنك الدّوليّ أنّ أكثر من نصف السّكان كان يعيشون تحت خط الفقر الوطني عام 2020. إلّا أنّ القفقر ازداد حوالى 82% عام 2021 بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغب آسيا. فما بالكم الآن والدّولار؟