الرأي:
ينتظر آلاف الموقوفين في السجون والنظارات البت في ملفاتهم, فيقضي الموقوف احتياطياً قدراً كبيراً من "العقوبة" قبل المحاكمة, في انتهاك صارخ للإجراءات القانونية للمحاكمة العادلة ونسف مدوي لمبدأ قرينة البراءة. وغالباً ما تكتفي المحكمة بمدة التوقيف, أو تضيف لها بضعة أشهر, في نقض واضح لفكرة الغرض من العقوبة كسبيل لإعادة التأهيل وتصحيح السلوك الجنائي, حيث يصبح الجاني قادرًا على العودة والانخراط في المجتمع. وفقاً للجنة السجون في نقابة المحامين, تبلغ نسبة الموقوفين احتياطياً 82.1%, 28% منهم أجانب. فيما ينتظر حوالي 800 سجين إخلاء سبيلهم, و200 ينتظرون قرارات الإفراج عنهم وإدغام الأحكام. يستعرض هذا المقال واقع الموقوفين احتياطياً ويتناول المعاناة التي يعيشونها وذويهم مع تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية
في السجن المركزي في رومية, حيث العدد الأكبر من الموقوفين والمحكومين, يعيش ما يقارب 4000 سجين من دون أبسط مقومات الحياة. زنازين مكتظة, طعام "لا يشبه الطعام", مياه شرب ملوّثة, رائحة "المجارير" تعبق في بعض أنحاء السجن, أضف إلى ذلك, انتشار الأمراض الجلدية والرئوية, إلى جانب عدد كبير من السجناء الذين يعانون من أمراض مزمنة فيما آخرون يعيشون أوضاعاً صحية دقيقة بسبب عدم المتابعة الصحية وتناول الأدوية بانتظام. أمام هذه الوقائع التي تشكل جانباً محدداً من المشهد العام في رومية, ماذا عن واقع الموقوفين وهل هناك حالات تجاوزت مهل التوقيف التي ينصّ عليها القانون اللبناني؟
معاناة أهالي الموقوفين
يتشارك أهالي الموقوفين المعاناة نفسها بسبب سوء الأوضاع داخل السجون من جهة, والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها من جهة أخرى. فقد أصبحت زيارة السجن مكلفةً جداً, "تتراوح تكلفة الحاجات الأساسية التي قد يشتريها الأهل لذويهم السجناء في كل زيارة بين 4 أو 6 ملايين ليرة لبنانية كحد أدنى. هذا في حال تأمين طعام أو مياه الشرب لأسبوع على سبيل المثال" تقول إحدى الأمهات لـ "القوس". فيما اختار عدد من الأهالي زيارة أولادهم مرّة كل شهر, بينما انقطع آخرون عن الزيارة وباتوا يقصدوهم "حسب التيسير, بجمّع مصاري وببعتن مع حدن, بوفّر المصاري يلي بدي إدفعهم أجار طريق, ما بقدر كل اسبوع روح لعنده, الوضع المادي كتير صعب" يقول أحد أهالي الموقوفين في سجن رومية وهو يسكن في الشمال.
"أنا أم سجين, معاناتنا كتير كبيرة, قلبنا على ولادنا يلي عايشين من قِلة الموت, إذا ما جبنالهم أكل وشرب ما بياكلوا ولا بيشربوا, ما في رعاية, عم بيموتوا على البطيء, إذا ما قادرين يطعموهم ويشربوهم يطلعوهم, ابني صرلوا سنتين موقوف وبعد ما صار شي بملفّه" تقول إحدى أمهات الموقوفين.
"زوجي موقوف في سجن رومية (أحمد.ع) من سنتين بجرم المخدرات, عنده مشاكل صحية مزمنة بالأذن اليمنى وكسر بالقفص الصدري بيسببله آلام حادة من وقت للتاني, صرت مقدمة فوق الـ ٢٠ إخلاء سبيل وما في تجاوب, الملف عند الاتهامية, ماعم بينزلوا على الجلسات وعم قدّم إخلاء سبيل عم يرفضوه, وضعه الصحي كتير سيء, وأنا ماعم إقدر إجي لعنده لأن الوضع المادي ما بيسمح, وزوجي أوّل مرة بيفوت عالحبس".
تختصر صرخة والدة سجين آخر وجعاً كبيراً للأمهات خاصة كبار السن, فهي تمشي مسافة كبيرة حتى تستطيع الوصول إلى مكان مرور الفان, لتنتقل إلى قصر بعبدا, وتتحدث عن موقف جرى معها الأسبوع الماضي, حين رفض أحد المساعدين القضائيين النظر في الجدول للتأكد إذا ما كان القاضي قد مضى إخلاء السبيل لابنها, قطعت كل هذه المسافة لتسأل وكان الجواب "مش قادر شوف الجداول". تقول هذه السيدة بكل جرأة "لو كان معي 10 أو 15 دولار كان دغري فتّش واشتغل, حق الطابع أخد مني 100 ألف وما لزقه منيح حتى يرجع يبيعوا بعدين بس تنكب الورقة بالزبالة".
"الله يجعلنا من الموقوفين المحظيين يلي معهم الجنسية الأميركية حتى يطلعوا ولادنا وما يتبهدلوا, كان ابني محبوس بسجن القبة, وكنا نزوره بالكاد, لأنه عنده ولدين وعم بهتم فيهم, زوجته ما بتشتغل وأنا كمان ووالده متوفي, نقلوه على رومية, كل يلي بدنا إياه يحكموه لنعرف أمتين بدو يخلص مسلسل البهدلة والمعاناة, حرام عليكم, كل إخلاء سبيل بدو 300 ألف وطوابع واطلعوا ونزلوا, والله العظيم تعبنا" تقول والدة (طلال, أ) الموقوف احتياطياً بجرم السرقة منذ سنة ونصف في سجن رومية.
أما والدة (خضر.ح) الموقوف منذ أربع سنوات بدعوى مخدرات, تقول: "نحنا المحبوسين مش ولادنا, نحنا المحبوسين للقضاة يلي لحد هلق ما حدن فتح بابه بوجنا, ولا حدن عمل جلسة, بس ندق باب القاضي دغري بقول: الأهالي يطلعوا برا, عيب عليكم, نحنا بالقانون عرفنا إنه فترة التوقيف الاحتياطي 4 أشهر وبحد أقصى سنة بالجنايات, ابني صار إله موقّف 30 شهر ما انعمله ولا جلسة لحد هلق, ابني مريض بأمراض جلدية, وكمان وقفِت رئة عنده, وكمان في عين ما بيشوف فيها وبدها عملية, مبالغ كبيرة عم بدفعها طبابة عليه, لو كان خارج السجن كنت عالجته بمركز تأهيل, أنا طلبت من ربي يحاسبه, ابني غلط أنا بعترف, نحنا تحت القانون مش فوق القانون, بس يحدّد القاضي موعد للجلسة حتى يحاكمه".
نسف لمبدأ قرينة البراءة
تتحدث إحدى المحاميات لـ "القوس" عن ملف أحد الموقوفين القاصرين الموجود في مبنى الأحداث في رومية حالياً, حضرت معه جلسة الاستجواب بناء على اتصال من اتحاد الأحداث, كان هذا القاصر مرافقاً لأحد الأشخاص (مروّج للمخدرات) الذي تعرض لحادث وتوفى.
"بلغت مدة توقيف القاصر سنة حتى اليوم, والملف وصل إلى الهيئة الاتهامية ولكنه لم يحوّل إلى المحكمة بعد للبت فيه, قدمّت أربع إخلاءات سبيل ولكنها لم تُقبل, والدته لا تستطيع زيارته بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة, ولديها تخوّف كبير إذا طالت مدة التوقيف أكثر, من نقله من مبنى الأحداث بعد بلوغه سن الـ 18 إلى المبنى العادي". وتضيف المحامية "المبدأ الحالي عند القضاء اللبناني هو التوقيف وليس الترك وإخلاء السبيل, المبدأ عند القضاء اللبناني هو التجريم, وليس تطبيقاً لقاعدة المتهم بريء حتى تثبت إدانته, هنا في لبنان القاعدة معكوسة, أي موقوف مدان حتى تثبت براءته, وهيدا شيء قاتل للمجتمع, قاتل للجيل, قاتل لبناء المجتمع, السجون اللبنانية ليست للتأهيل بل لتخريج أشخاص يحملون عقداً نفسية واجتماعية وفكرية وحتى أمراض جسدية, يتعاطون المخدرات وهم على خطوات قريبة جداً من ارتكاب أي جرم في أي لحظة, وهذا الأمر غير مقبول الاستمرار فيه".
أي موقوف مدان حتى تثبت براءته, وهذا المبدأ قاتل للمجتمع, فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته
من جهة أخرى, يصف عدد من المحامين حالات عديدة جرى فيها توقيف المشتبه بهم لسنوات, ولكن عند بدء المحاكمة ثبتت براءتهم من الجرم المسند إليهم, لا سيّما وأن فترة التوقيف تكون صعبة على المشتبه بهم, فتتم معاملتهم منذ اللحظة الأولى كـ"مجرمين". فلا يراعى مبدأ قرينة البراءة, وكأن التوقيف يعني إثبات الجرم على المتهم, ومن تلك الحالات موقوف امتدّت فترة توقيفه على ثلاث سنوات بجرم ترويج المخدرات, وعند جلسة الحكم ثبتت براءته من التهمة المسندة إليه. "شو بيعمل الموقوف بسنين عمره يلي أمضاها بالحبس, بيحطّن بالقجة, ضاع عمره وهوي ناطر المحاكمة" يسأل الوكيل القانوني لهذا الموقوف.
لجنة السجون في نقابة المحامين
يؤكد رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين جوزيف عيد وجود صعوبات ومشاكل حقيقية في السجون اللبنانية تؤدي إلى تردي أوضاع الموقوفين والمحكومين فيها, في مقدمها الاكتظاظ الخانق في جميع السجون والنظارات, ويقول: "في السجن المركزي في رومية مثلاً المعَد لاستيعاب حوالي 1200 سجين يوجد فيه ما يقارب 3800 سجين, وهذا الرقم إلى ارتفاع, مما ينجم عنه مشاكل صحية وأمنية وسوء تغذية وعرقلة البرامج التأهيلية, إضافة إلى الوضع الاقتصادي المزري الذي تشهده البلاد".
ويشير إلى وجود "نقص كبير في عديد العناصر الأمنية والآليات المعدّة لنقل الموقوفين إلى المحاكم تمهيداً لمحاكمتهم", إلى جانب مشكلة "وضع حوالي 350 سجيناً مصنّفين في خانة الإرهاب في سجن رومية وهو غير معدّ لاستقبال هكذا موقوفين إذ يجب فصلهم عن باقي السجناء في ثكنات عسكرية مع عناصر أمنية مختصة".
ويعتبر عيد أن "اعتكاف القضاة ساهم في تأخير إصدار الأحكام بحق الموقوفين والبت في إخلاءات السبيل خاصة, الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفات الفوضى والتمرد". كما أن "النقص في أحوال الصيانة والتجهيزات والدواء والاستشفاء وغيرها, خاصة في هذه الظروف المأساوية, زاد الأمور تعقيداً في السجون اللبنانية".
ويشير عيد إلى أن "لجنة السجون قد تقدمت بحل منذ أكثر من خمسة عشر عامًا وهو لا يزال صالحًا حتى الآن ريثما يتم نقل السجون إلى عهدة وزارة العدل. والاقتراح هو البدء بإنشاء أربعة سجون نموذجية في المحافظات تتسّع كل منها لـ 1,200 سجيناً. علمًا بأن الأراضي التي تملكها الدولة متوفرة, وذلك خلال مهلة سنتين, واللجنة تعمل على توفير الاعتمادات اللازمة لهكذا مشروع علماً بأن مجلس الوزراء في عهد وزير العدل السابق النقيب قرطباوي قد أقرها, ولكن على ما يبدو ليس من الأولويات والأمر متروك لحكمة وشجاعة معالي وزير العدل ونحن إلى جانبه".
النقص في الصيانة والتجهيزات والدواء والاستشفاء في السجون, خاصة في هذه الظروف المأساوية, زاد الأمور تعقيداً
وأشار عيد إلى اجتماع عُقد الأربعاء الفائت بين لجنة السجون ووزارة الداخلية, حضره الرائد كريم مراد ممثلاً العميد غسان عثمان مستشار وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام مولوي "بهدف دفع الأمور إلى حلحلة قريبة في موضوع الموقوفين والسجون". مشيراً إلى أنه "جرى توزيع أعضاء لجنة السجون وعددهم حوالي 80 محامي على جميع السجون والنظارات في الأراضي اللبنانية كافة, بهدف إشراكهم كفريق عمل واحد وتأميناً لمتابعة أوضاع السجون عامة من النواحي القضائية والصحية والإنسانية. وذلك وفقاً لاختيارهم كلّ حسب منطقته وحضوره الدائم, على أن تنظم تقارير بهذا الشأن ترفع إلى رئيس اللجنة لإيجاد الحلول الممكنة بالشراكة مع وزارة الداخلية والهيئات الإنسانية المحلية والدولية وتوجيهات نقيب المحامين".
تسعة أعوام من التأجيل
اليوم يُكمل ملف في المجلس العدلي, مُصنّف ضمن ملفات الإرهاب, عامه التاسع. وحتى اليوم بقي الملف عند قاضي التحقيق الذي لم يُتابعه بالاستجواب منذ العام 2015, وقال للموقوف "نكمل الاستجواب في الجلسة القادمة", ولم تأتِ بعد الجلسة القادمة! فإذا كانت الأدلة تدينه, لماذا لا يحاكم؟ وبدلاً من أن يظل موقوفاً لمَ لا يتحول إلى محكوم عليه بجرم الإرهاب؟ هذه عيّنة ومثلها كثر. وفي المحكمة العسكرية, التأجيل سيّد القضايا ويتعاقب القضاة على المنصب وتبقى السياسة واحدة والتأجيل قد يصل أحياناً إلى 11 شهراً.
المقداد يناشد
"ما يجري بحق الموقوفين جريمة, يجب الإسراع في محاكمتهم حتى لا يتكرر سيناريو العام 2022 الذي شهد وفاة أكثر من 33 سجيناً وموقوفاً في السجون اللبنانية", يحذر رئيس لجنة متابعة شؤون الموقوفين والسجناء دمر المقداد من استمرار توقيف آلاف الموقوفين, في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها في السجون والنظارات على مختلف الأراضي اللبنانية. "الموقوف إنسان ومن الممكن أن يكون بريئاً, له الحق في محاكمة عادلة وإذا كان مذنباً فليحاكم".
ودعا المقداد إلى "التدخل السريع لحل مشكلة الموقوفين في لبنان, معتبراً أنه "من غير المقبول الاستمرار في هذا الوضع, فكما استند القاضي غسان عويدات إلى القانون الدولي الذي لا يسمح بالتوقيف الاحتياطي إلى ما لا نهاية, وأطلق سراح الموقوفين في ملف المرفأ, فليطبق الأمر على باقي الموقوفين في لبنان".
المصدر: القوس