الرأي:
كان المشهد في قصر العدل أمس سوريالياً حتى أقصى درجات الغرابة. أن يتآمر سياسيون على قاضٍ لإزاحته من النظر في ملف كتفجير مرفأ بيروت, فهذا أمر يمكن أن يكون مفهوماً بداعي الخشية من كشف المستور وتحديد المسؤوليات وبالتالي المحاسبة. أمّا أن يتضامن قضاة آخرون مع سياسيين كي يقصوا هذا القاضي ويكبّلوا يديه, فهذا يمكن أن يوضع في خانة عجائب الدنيا السبع التي ستُضاف إليها عجيبة لبنانية في قصر العدل, لا بد ستكون الأبرز والأكثر مدعاة للدهشة.
مذ أن عاد القاضي طارق البيطار إلى مهمته المكفوف اليد عنها, بفعل هذا التآمر, وإذا بالأوراق تتساقط عن شجرة التين ورقة ورقة. الآن بات يمكن تقييم حجم الأخطبوط الذي يواجهه البيطار والذي يمنعه من أداء مهمته. لقد كان تعطيل هذه المهمة ثمرة لتعاون وثيق قضائي- سياسي أدى إلى وقف تنفيذ الاستدعاءات وإلى الامتناع عن المثول أمام المحقق العدلي, وفي النهاية أدى إلى وقف شبه كامل لمهمة التحقيق, إلى أن قرر البيطار نزع الأغلال باجتهاد قانوني, أتاح له استئناف المهمة, لتتكشف بعدها كل الألغاز دفعة واحدة, وفي طليعتها لغز اشتراك بعض القضاء في تكبيل يد المحقق العدلي وتعطيل التحقيق, وحماية المرتكبين, سواء كانوا في خانة المقصّرين أو المتآمرين.
سقوط أوراق التين بات يسمح برسم صورة واضحة في العدلية. القاضي طارق البيطار كان منذ استلامه مهمة التحقيق بعد تنحية القاضي فادي صوان, في موقع من يتابع الطريق بكل أمانة وضمير والعين على القرار الاتهامي الذي عمل عليه بجهد استثنائي.
بدوره رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود, كان العين الساهرة على التحقيق العدلي, وعلى مهمة المحقق العدلي, وهو وإن قبل مبدئياً بتعيين قاض رديف إلا أنّ ذلك تبيّن في ما بعد أنّه كان وقتاً رديفاً او مستقطعاً, الهدف منه استيعاب الضغط الهائل الممارس على البيطار, وحمايته لاستكمال التحقيق حتى كتابة القرار الاتهامي.
ما جرى أمس في قصر العدل كان شبيهاً بالوقت المستقطع الذي أجهض تعيين القاضي الرديف. كان يراد أمس صدور قرار عن مجلس القضاء الأعلى بالإجهاز على البيطار, وتغطية القرارات التي اتخذها مدعي عام التمييز بحقه, لكنّ النصاب سقط والاجتماع لم يحصل, وسيبقى الأمر على ما هو عليه بانتظار تحديد موعد جديد, لكن هذا لن يعني حكماً أنّ القاضي البيطار بات بمأمن.
منذ استئنافه لعمله في ملف تفجير المرفأ والشائعات تلاحق مهمة البيطار. أبرزها نسج مؤامرة مفادها أنّ أميركا وفرنسا والحلف الأطلسي طلبوا منه جميعاً أن يخطو هذه الخطوة, لكن الحقيقة بقيت في مكان آخر تماماً. فبعيداً عن هوس نظرية المؤامرة, لن يصدق أحد أنّ قاضياً كطارق البيطار يمكن أن يكون بهذا الاصرار لإتمام المهمة المقدسة, وكشف الحقيقة وتحقيق العدالة. قد يكون هذا النوع من الرجال نادراً لكنّه موجود. تتذكر ايطاليا قاضيها الشهيد الذي واجه المافيا وقضى عليها, وسيتذكر لبنان أنّ قاضياً ضميره لم يمت, قاتل بأسنانه لبلسمة جراح شعب بكامله, ببلسم العدالة.