هي "ثورةٌ بالألوان" تخطَّت العشوائية نحو الجمالية في بلدة برجا – إقليم الخروب. يصحُّ القول أنَّها "نهضةٌ" أرادَها عددٌ من الشبابِ أن تكون واقعاً, لتنفضَ الأحياء القديمة من سوادِ الإسمنت المُدقع. من وسطِ البلدة, إنطلقَ مشروع "برجا بالألوان" خلال شهر آب 2017, بمبادرةٍ فردية, سرعانَ ما تحوَّلت إلى جماعية, حيثُ باتت بيوت البلدة في الحي القديم تطلى بالألوان الصافية الزهية, فيطالعكَ الأزرقُ هنا, ويلفتُ نظركَ الأحمر هناك, وغيرها من الألوان المتناسقة التي تمَّ اختيارها بعنايةٍ ودراسة.
من الجامع.. كانت البداية
إنطلاقةُ المشروع كانت من وقفِ جامع برجا الكبير الكائن في حي الجامع المطلِّ على ساحة العين وسط البلدة. في العام 2003, بدأت أكبر عملية ترميم وتجديد وتوسعة للمسجد, وأعيد إليه رونقهُ وبهاؤه. وفي هذا الصدد, يؤكدُ الشيخ جمال بشاشة, إمام وخطيب جامع برجا الكبير, وهو أحدُ الأركان الأساسيين لمشروع "برجا بالألوان", أنَّ "الفكرة بدأت من وقف جامع برجا الكبير, إذ تمَّ, خلال شهر رمضان الماضي, طلاء الدرب الأثري المؤدي إلى الجامع المعروف بـ"الزقزوق", وتوحيد ألوان الدكاكين فيه وزرع الورد الجوري". يشير بشاشة في حديثٍ لـ"لبنان24" إلى أنَّ "الجهد تكرَّس للقيام بمشروعٍ يطالُ المباني القديمة وسط البلدة, خصوصاً وأنها تتسمُ بالطابع العشوائي, إذ أنها شيدت إبَّان زلزال العام 1956, من قبلِ هيئة التعمير في الدولة اللبنانية. ولذلك, تشكلت لجنة للإنطلاق بالمشروع, وكانت البداية من ساحة العين وسط البلدة, التي لها في الوجدان البرجاوي رمزية كبيرة, وفيها مرت كل الأحداث في تاريخ البلدة". ويضيف: "تمَّ تقسيم المشروع على مراحل, حيثُ سيطال كافة المنازل الممتدة من الساحة وصولاً إلى سرايا البلدية, وباتجاه حي المسقى وسط البلدة, على أن يستكمل في إطار إعتماد سياسة قيام الأهالي بطلاءِ منازلهم, ضمن المشروع نفسه".
تمويل فردي وتعاون متميز
قبولُ الناس بشكلٍ عام وأصحاب المنازل المستهدفة بالمشروع الجمالي بشكلٍ خاص, كان العامل الأساس لإستمرارِه ونجاحه. لم يقف الأمر عند هذا الحد, بل كانَ تمويله بمبادراتٍ فردية من أصحاب المنازل, الذين قدَّموا أموالاً لقاء طلاء منازلهم. يقول بشاشة: "اعتمدنا بالدرجة الأولى على تبني الناس للمشروع, وخصوصاً أصحاب العمارات, ومعظمهم فوضوا فريق عمل "برجا بالألوان" لإختيار ألوان عماراتهم, وذلك كثقةٍ منهم بأهمية المشروع في واقع حياتهم. كذلك, فإننا نعتمد على مساهمات العديد من البرجاويين, الذين تبنوا فكرة المشروع. وفيما خصَّ بلدية برجا, فهي تبارك المشروع وتدعمُه, وقدمت مبلغاً كمساهمةٍ لنجاحه".
ثورة "بالألوان" بعينٍ "فنية"
كتلكَ الأحياء الملونة في بورانو بإيطاليا, وموخيريس في المسكيك, وروكلو في بولندا, اختارَ ابن برجا الفنان التشكيلي نبيل سعد أن يصبحَ الحي التراثي في برجا ملوناً. فسعد, الذي رسمَ برجا القديمة في حقبات الثلاثينيات والأربعينيات, وضع تفاصيل مشروع "برجا بالألوان", وأخرجهُ بناءً لدراسةٍ تشكيلية موزونة. يلفتُ سعد في حديثٍ لـ"لبنان24" إلى أنَّه "بعد عصفٍ ذهني, أردنا نقل تجربة الضيع والمدن الملونة في أوروبا إلى برجا, وأنا كفنان تشكيلي متخصص بإختيار الألوان, عملتُ على اختيار الألوان الصافية, وابتعدتُ عن الألوان المركبة". ويضيف: "الألوان الصافية تضفي تبايناً طبيعياً بدرجةٍ عالية, وتمَّ اختيارها على أساسٍ علمي, وتوزيعها بشكلٍ متناغم من أجلِ راحة العين, كما اعتمدنا الإطار الأبيض حول كافة النوافذ والأبواب لتوحيد الشكل, ليصبح لكل منزل حيثيته وجماله". ولفت إلى أنَّ "البيوت الصخرية القديمة لم يشملها المشروع, لأنَّ الهدف هو صونها والحفاظ على قيمتها", معتبراً أنَّ "برجا بالألوان هو ثورة قائمة بحد ذاتها, لأنه يعكسُ الوجه الحضاري للبلدة من جهة, ويحافظ على الهوية الثقافية التراثية للبلدة, التي بدأت تندثر مع الثورة العمرانية من جهةٍ أخرى".
"غرفةُ عمليات"
في معرضِ حديثه, أشار سعد إلى أنَّه "بمبادرةٍ كريمةٍ من آل الخطيب في البلدة, تمَّ تقديم أحد المنازل المطلة على ساحة العين وسط البلدة, للإستفادة منه في نشاطاتٍ ثقافية, على أن تكون ضمنه غرفة عملياتٍ لمتابعة مشروع برجا بالألوان, تحتوي على شاشةٍ كبيرة موصولة بكاميرات لتصوير مراحل المشروع, والعمل على متابعتهِ بعد الإنتهاء منه حفاظاً عليه, على أن يكون عمل هذه الغرفة قائماً بالتنسيق مع البلدية, وشبابٍ متطوعين".
ماذا بعد المشروع؟
يؤكد سعد أنَّ "المشروع مستمرٌ بإرادة الجميع في البلدة, على أن يكون العمل المقبل ضمن الحي القديم, لتأهيله والحفاظ عليه, وترميم مداخله ووضعِ بواباتٍ على شاكلة البوابات القديمة في الأحياء التراثية, خصوصاً على درب "الزقزوق" المؤدي إلى الضيعة القديمة, التي يُراد منها أن تصبحَ وجهةً سياحية مستقبلية".
في المحصلة, فإنَّ مشروع "برجا بالألوان" لهوَ تجربةٌ فريدةٌ من نوعها في لبنان, تعكسُ إرادةً قوية متأصِّلة بالتغيير والتجديد, خصوصاً في برجا التي تعتبر "خاصرة" إقليم الخروب, وبوصلتهُ في شتى الميادين.