استيقظ أبو عصام, وهو رجل سبعينيّ يعيش في منزله الجبليّ الرابض على سفح صنّين مع زوجته, داخل بستان تفّاح يملكانه, استيقظ على أصوات شابّات وشبّان في مقتبل العمر, يمرّون مسرعين بالقرب من منزله, يرافقهم راهبتان وأساتذة, في مسيرهم الجبليّ الصباحيّ المبكّر نحو "المنبوخ", وهو وادٍ يصل منطقة الزعرور بصنّين. خرج من باب المنزل مسرعاً, وإذ بعشرات التحيّات تنهال عليه من المارّة, ردّ بمثلها وبلهجة بسكنتاويّة محبّبة "تفضّلوا كلوا تفّاح, ولَشو راكضين ركض؟ مين لاحقكن؟!".
إنها العادات اللبنانيّة اللافتة, التي تفرض على صاحب البستان دعوة المارّة أو الضيوف إلى تذوّق محصوله. توقّفت المجموعة لاستراحة قصيرة, وتبادلوا هموأبو عصام أطراف الحديث, وفهم منهم أنّهم طلّاب ثانويّة مار يوسف الأنطونيّة في كسارة - زحلة, وكم كانت فرحته عامرة بطالبات وطلّاب تذوّقوا منه التفّاح البسكنتاويّ المميّز, والطلّاب بدورهم شكروه على حسن أخلاقه وكَرَمه, وإذ بزوجته تدعو رئيسة المدرسة والوفد التربويّ المرافق إلى "قهوة أهلا وسهلا", فاعتذروا مقدّرين ضيافتها وزوجها, بسبب ضيق الوقت وطول المسير المقرّر نحو بسكنتا.
تابع طلّاب الصفوف النهائيّة في الأنطونيّة مسيرهم في الوادي, عبر طريقٍ جرديّة, وصولاً إلى طريق صنّين - الشخروب, ومنه إلى بسكنتا وصولاً إلى مركز عبدالله غانم الثقافيّ, لمسافة تزيد عن 15 كيلومتراً, حيث استقبلهم مؤسّس المركز القاضي غالب غانم, رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً, شارحاً لهم ملخصاً عن فكر عبدالله غانم, ثمّ جرى حوار بين الطلّاب وبينه عن مسيرته التربويّة والقضائيّة, حاثّاً الطلّاب علىعدم اليأس واستبداله بالأمل والثقة, الوحيدين القادرين على مساعدتهم للنجاح الذي يرنون إليه.
في نهاية لقائهم, لاحظت الطالبة "غلين كرم" من الصفّ الثانويّ الثالث, وجود بيانو في قاعة المحاضرات في مركز عبدالله غانم, فراحت تعزف مقطوعات فنيّة باحترافيّة عالية, وكم كان الجميع متأثّراً عندما عرفوا من القاضي غانم, أنّ البيانو الذي عزفت به غلين, يعود إلى المفكر اللبنانيّ الكبير عمر أبو ريشة, وهو هديّة قيّمة لمركز عبدالله غانم الثقافيّ. وبحركة لافتة, قدّمت الطالبة جوي عطايا من صفّ الآداب والانسانيّات, مجموعة أغنيات للسيّدة فيروز, رافقتها خلالها غلين كرم, عزفاً بالبيانو, فَعَلا التصفيق, بعد جوٍّ فكريٍّ وفنيّ لطيف.
خلال المسير, تمّ تبادل أطراف الحديث بين المربّين والطلّاب, حول انطلاقة العام الدراسيّ ومخطّطاتهم الجامعيّة والحياتيّة, ثم توقّف الطلّاب فجأة, يشاهدون الطالب ميشال كيوان يطبّق نظريّة "ريبو" حول الميول, والتي تمّ شرحها لهم منذ أسبوع, على الميل الطبيعيّ للإنسان نحو تفاح بسكنتا... عجيب أمر اللبنانيّين. لا يأس في عقول طلّابنا, ولا وهن في قلوبهم, ألكلّ لديه أحلامه التي يعزم على تنفيذها, والكلّ يحارب بأسلوبه وبقدراته وبحالته, كلّ الظروف السيّئة لا بل السيّئة جداً التي تعصف بلبنان. ومقولة, "مرّ على أهلنا أكثر من ذلك وعاد لبنان وانفرجت الحال", هي العبارة الموحّدة على ألسنة الطّلاب, لا بل إنّك لتلاحظ, أنّ الأزمة اللبنانيّة زادت الطّلّاب نَضجاً لافتاً, مبنيّاً على قوّة وإرادة, ستؤديان حتماً الدور المطلوب في بناء حياةٍ يتمنّونها.
أنهى الطّلاب يومهم ومسيرهم الطويل بزيارة لكنيسة مار نقولا في دير ما يوحنّا - الخنشارة, ثم تناولا الغداء في أحد مطاعم المنطقة.
جميلة هذه النشاطات التي تقوم بها ثانويّة مار يوسف الأنطونيّة في زحلة- كسارة, ويجب تعميمها على كلّ المدارس اللبنانيّة, إذ تحصل النشاطات عادةً في نهاية العام الدراسيّ, بينما وجب الاستفادة منها في بدايته, لدفع الطالب نحو معنويّات مرتفعة وحماسة إيجابيّة للانطلاق في واجباته المدرسيّة, ولكسر الصورة النمطيّة لخريف العام الدراسيّ من كلّ سنة, المكوّن من نهاية قسريّة لنشاطات العطلة الصيفيّة ومرحها, وعودة الطلّاب إلى سجنهم النفسيّ والتربويّ والمنزليّ, حيث يمكنهم التخلّص منه بهذه الطريقة