الرأي:
بثينة حمدان
كل مكالمة المدة المحددة بالثواني. لا يدرك قيمة الوقت فعلاً إلا من فقده, أو يعيش فقدان هذا الزمن وهو قابعاً خلق القضبان, والذي لا تتاح له مشاركة أوقاته مع العالم الخارجي, أو مَن يحاول التواصل مع هذا الزمن متجاوزاً كل الحواجز والعوائق والقضبان.
يعيش أسرانا في سجون الاحتلال معركةً على الزمن, زمن الفورة, زمن الزيارة, زمن الفرح إن كان ممكناً والمكالمة الهاتفية, وصولاً إلى الزمن المحدد لمحكومية الأسير بل والزمن غير المحدد كما هو الحال حين نتحدث عن الأسرى الإداريين.
نعم المعركة للأسير والأسيرة هي على الزمن, فحقيقة أن يتواصل الأسير مع عائلته وأصدقاءه عبر الهاتف, بعيداً عن أعين السجان, وضمن أوقات مجهولة, ولمدة محدودة, هي معركة للأسير وذويه, داخل الأسر وخارجه, فالأسير يجاهد من أجل دقائق الاتصال, التي قد تكون ثلاثة في هذا السجن أو ذاك, وقد تكون عشرة في الصباح وأقل في المساء, بل ويفقد الاتصال لأيام ولأسابيع, وأحياناً لشهور حين يحول الأسير إلى العزل أو إلى النقل لوجهة تبقى مجهولة لفترة طويلة وغير محددة.
وهي معركة يشارك بها ذوو الأسرى؛ فتخيل أن زوجة أو أم أو ابنة تنتظر دقائق محدودة من الاتصال كل يومين, ماذا سيكون نص الحديث؟ تخيل أن هذا الأمر قد يتكرر طوال خمسة أو عشرة أو عشرين عاماً, تخيل أن ذوي الأسرى يُقدّرون في كل اتصال أن الأسير لا يستطيع أن يكون أباً يشارك في صياغة حياتهم ولا زوجاً يمنح شريكته ما تريده من دفء كما يفترض.. ناهيك عن أنه: كيف ستختصر الكلمات وقت المحادثة القصير لتربط الأسير بعائلته والعالم الخارجي؟
يعيش ذوو الأسرى هاجس المكالمة القادمة والزيارة القادمة؟ هل ستكون أو لا تكون؟ ويعيشون هاجس اختصار أحداث لا بد أن تقال في دقائق قصيرة جداً, يعيشون هاجس اغلاق المكالمة فجأة دون إنذار لأنه حان وقت عد الأسرى من قبل الادارة, وهو النهج الذي اعتمدوه خاصة بعد نفق الحرية. ويعيش الأسير أيضاً طوال الليل ينتظر دوره في مكالمة اليوم التالي, وهاجس غياب جهاز الهاتف عن هذا القسم وانتقاله لقسم آخر وأسرى آخرين في الانتظار!!
يُضاف إلى هذا معركة الأسير الفردية والجماعية في كيفية إدارة وقته بين الجدران ومع زملاءه من الأسرى, ومعركته مع ذاته؛ في أن يبقى حراً, ثابتاً, متماسكاً, طائراً عابراً للحدود وللتفاصيل المرهقة, ومعاملة السجان القذرة, وممارسات ادارة السجون حوله؛ تحاصره في سجنه, تسجنه في سجنه, تحاربه في طعامه المجمّد من كل روائح الطبيعة ونضارتها, تُلغي الزيارات فجأة, تحدد عدد الصور المسموح أن تصله شهرياً وبمواصفات معينة في محاولة لتفقدها البهجة, وتستخدم سياسة العزل ليفقد كل هذا المحيط الحي من حوله, فلا يبقى له سوى أن يُحادِث جدران الزنانة وليت مدة العزل لا تطول!!
كل انواع هذا التواصل محاصرٌ وفي حربٍ دائمة, وكل هذا التواصل هو العلاقة الوحيدة المسموحة لاستمرار صفته كزوج وأب وأخ وابن.. ولاستمرار صفتها كزوجة وأم وأخت وابنة, فبدون هذا التواصل يمر الوقت أثقل مما كان, فيه من الخيالات الخارجة عن السياق أكثر من الخيالات القريبة إلى الواقع, وكله وقت مستقطع من حياة الأسير, وليس سوى حفنة من مسيرة طويلة من حياة السجون, لكن بالتأكيد أنه يجب علينا اتجاه هذا الفراغ محاصرته جميعاً جنباً إلى جنب مع الأسرى والأسيرات, ونملأه بتواجدنا ودعمنا الدائم لمطالبهم التي هي مطالبنا نحن مَن في العالم الخارجي أيضاً.
المصدر: الرأي