يُذَلّ اللبنانيون ساعات وأيام على محطات المحروقات في لبنان ويتراصفون بسياراتهم في صفوف طويلة, للفوز ببضعة ليترات من البنزين وتعبئة خزانات سياراتهم بـ20 ألف ليرة لبنانية "بشق النفس" من البنزين المدعوم من ودائعهم المهدورة, بل المسروقة. هذا إذا تمكنوا أساساً من ذلك و"توفّقوا" بمحطة لم ترفع خراطيمها.
مقابل هذا الإذلال الذي أوصلتهم إليه هذه الأكثرية الحاكمة, ينشط تهريب البنزين والمازوت, كغيرهما من السلع المدعومة, إلى سوريا, "على عينك يا تاجر… يا فاجر". وبينما لبنان ينهار, والاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان وصل إلى مرحلة حرجة, ورفع الدعم على الأبواب في ظل نسبة فقر تخطت 70% من الشعب اللبناني, لا يرفّ للقابضين على السلطة جفن. والأنكى أن جميعهم يخرجون على اللبنانيين مستنكرين الفلتان الحاصل والتهريب, وكأن المطلوب من الناس أن توقفه.
لم يعد التهريب يقتصر على الصهاريج والبيك آبات المحمية, بل وصل إلى درجة يقوم المهرِّب بتعبئة غالونات ويفوّل سياراته في لبنان بالبنزين المدعوم, ويعبر بها بسلاسة وبطريقة شرعية الحدود اللبنانية السورية عند نقطة المصنع, ومن ثم يوقف سيارته بعد عبور مسافة قصيرة إلى جانب الأوتوستراد في المنطقة الفاصلة بين المصنع ونقطة جديدة يابوس السورية, ويعرض "بضاعته" بوقاحة من دون خوف أو خشية.
إلى هذا الحد من الفجور وصلت أفعال مافيات التهريب, المعروفة بالأسماء والسيارات والشاحنات والصهاريج, فيما الدولة والسلطات المعنية غائبة أو متخاذلة, بل هناك علامات استفهام حول تواطئ بعضها مع المهربين. أيعقل أن المسؤولية باتت معدومة لدى المسؤولين إلى هذا الحد؟
كلفة تهريب المحروقات إلى سوريا تبلغ نحو ملياري دولار سنوياً, فيما في لبنان عدد كبير من أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية مفقود, وحليب الأطفال مقطوع, بحجة عدم وجود دولارات كافية لدى البنك المركزي لاستمرار الدعم على ما كان عليه. والناس يتصارعون على السلع المدعومة التي باتت نادرة في السوبرماركت, وأموال المودعين نُهبت وهناك كلام يتردد عن أن اليد مُدَّت فعلاً إلى ما تبقى من الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان الذي يعوَّل عليه لمحاولة استنهاض الاقتصاد وتخطي الأزمة, من دون توضيح المعنيين هذا الأمر, فضلاً عن أن التقارير الدولية تحذّر من اقتراب لحظة الانهيار والفوضى في لبنان. وسط كل هذا الجحيم, التهريب إلى سوريا في عزّ أيامه, والمهرّبون يسرحون ويمرحون.
قائد الجيش يجوب العالم لمحاولة استنهاض الدول وتأمين بعض المساعدات بعشرات ملايين الدولارات لتوفير المستلزمات والحاجيات الأساسية للجيش. ويُعقد مؤتمر دولي في باريس لدعم الجيش اللبناني بعدما لم تعد خافية الآثار التي تركتها الأزمة الاقتصادية عليه, وعلى سائر الأجهزة الأمنية التي باتت أوضاعها حرجة في ظل انهيار الليرة والقدرة الشرائية بحيث لم يعد معاش العسكري يتخطى الـ80 دولاراً في أحسن الأحوال. في حين تبلغ كلفة تهريب المحروقات إلى سوريا ملياري دولار سنوياً.
الدولة بمختلف مواقعها ومسوؤليها ومؤسساتها المعنية مسؤولة عن هذه الجريمة الموصوفة بحق الشعب اللبناني. ولا يمكن لأي مسؤول في هذه الأكثرية الحاكمة أن يتهرب من مسؤولية ما يُرتكب. ويوم الحساب لا بدَّ أن يأتي. فدوام الحال من المحال.