أعلنت وزارة المال أمس أنها ضخّت في السوق نحو 8 ملايين طابع من فئة الـ "1000 ليرة". هذه الطوابع, كما غيرها من الإصدارات السابقة, كانت كلفتها متدنية وبلغت 12.89 ليرة للطابع الواحد, إلا أنه بموجب المناقصة الأخيرة ارتفعت الكلفة إلى 49.95 ليرة بسبب تعديل المواصفات الفنية من طابع على ورق مصمّغ, إلى ورق لاصق ذاتياً, وهو ما سيكبّد الخزينة نحو 15 ملياراً إضافية وخسارة محتمَلة في احتياطات مصرف لبنان
نجحت وزارة المال في تمرير مناقصة الطوابع وفق التعديلات الفنّية التي فرضتها على مواصفات الطابع المالي لتفرض الانتقال من الطابع المطبوع على ورق مصمّغ إلى طابع مطبوع على ورق لاصق ذاتياً بتقنيّة متطوّرة جداً... ومُكلفة جداً أيضاً. فهذه التقنية فيها مستوى أمان غير مبرّر على الطابع يساوي الأمان ضدّ تزوير العملة, وبكلفة مضاعفة 287% عن كلفة طباعة الطوابع سابقاً.
في 14 تموز الماضي, عُقدت جلسة فضّ عروض "تلزيم تقديم طوابع مالية لزوم وزارة المالية". بحسب محضر الجلسة, تقدّمت ثلاثة عروض عائدة لكل من: "شركة غرين غلوري", و"انكريبت سيكوريتي", و"إديت إنك". الشركات الثلاث تنافست على طباعة 163 مليون طابع وتلزيمها خلال 15 شهراً. بلغت قيمة عرض "غرين غلوري" 41 مليار ليرة, وقيمة عرض "انكريبت" 9.4 مليارات ليرة, وقيمة عرض "إديت إنك" 8.14 مليارات ليرة. ويشير المحضر إلى أن "انكريبت" تعتمد الطباعة المحليّة وتستفيد من أفضلية بنسبة 10% ليصبح السعر المقدّم منها بعد احتساب الأفضلية 8.46 مليارات ليرة, إلّا أن عرض "إديت إنك" بقي أدنى منه وقد جرت ترسية التلزيم عليه.
الريبة الأولى في هذا الملف, تتعلّق بالعرض العائد لشركة "غرين غلوري" (يملكها نبيل بدر) بقيمة 41 مليار ليرة, أي أعلى بخمسة أضعاف من العرض الأدنى الفائز, وهو أمر يستدعي الريبة والشكّ بكونه "عارض ظلّ".
أمّا الريبة الثانية, فهي تلك المتّصلة بالسعر. كانت كلفة الطابع الواحد, بحسب استدراجات العروض المنفّذة في الوزارة لغاية مطلع حزيران 2020, تبلغ 12.89 ليرة للطابع الواحد, إلّا أنّ نتائج المناقصة الأخيرة رفعت الكلفة إلى 49.95 ليرة (مع ضريبة القيمة المضافة) أي أعلى بنسبة 287% مما كانت عليه قبل أسابيع.
لكن ما هي الكلفة الفعلية على الخزينة؟ تقول المادة الثامنة من دفتر الشروط إنه يحقّ للإدارة, بناء على طلب مديرية الخزينة, وخلال مدّة التنفيذ, أن تزيد كمية طباعة الطوابع بنسبة 25% بالأسعار نفسها, أي ما يوازي 40.7 مليون طابع إضافي. وتنصّ المادة الحادية عشرة على أن مدّة التلزيم 15 شهراً على أنه "يمكن تمديد مدّة الالتزام إلى ثلاث سنوات إضافية بموافقة الطرفَين, في حال توفّر الاعتماد والأسعار عينها التي لزّم بموجبها". وبمعزل عن النصّ المطاطي لهذه المادة وقابليته للتفسير بأكثر من طريقة (ماذا تعني ثلاث سنوات إضافيّة؟ لماذا ذُكر التمديد طالما المقصود تجديد الالتزام ربطاً بذكر الأسعار نفسها؟), إلّا أنّ ذكر مسألة الأسعار بعد التمديد يحسم بأن العقد قابل للتجديد, بالحدّ الأدنى, 15 شهراً إضافية لطباعة 163 مليون طابع مالي إضافي مع 25% إضافية, أي ما مجموعه 407 ملايين طابع مالي. وبذلك تصبح الكلفة الإضافية التي ستدفعها الخزينة, بالحدّ الأدنى, وتبعاً للتفسير الضيّق للمادة 11 من دفتر الشروط, 15 مليار ليرة إضافية على أساس أن الكلفة الأساسيّة لطباعة 407 ملايين طابع مصمّغ ستبلغ 5.3 مليارات ليرة, بينما طباعة "اللاصق ذاتياً" ستبلغ 20.3 مليار ليرة.
يثير هذا الأمر تساؤلاً عن مدى حاجة لبنان إلى هذا الترف في طباعة الطوابع لتكون "لاصقة ذاتيّاً", في ظلّ حالة الإفلاس وانهيار سعر الصرف؟
عملياً, لا يعود الارتفاع في كلفة طباعة الطوابع المالية إلى فروق سعر الصرف, ولا إلى تضخّم الأسعار, بل إلى رغبة وزارة المال بتعديل الشروط الفنية وإصرارها على ذلك منذ أيام الوزير السابق علي حسن خليل. هذا الإصرار بدأ في عام 2015 حين جرت محاولات لتعديل المواصفات الفنية وتقنيات الطباعة, إلا أنه في تلك الفترة فشلت رغم تكرار المحاولات أكثر من مرّة, إذ سيطر الرأي القائل بأنه ليس هناك داعٍ لرفع المواصفات الفنية للطابع المالي إلى مستوى مواصفات العملة أو النقد, خصوصاً أنه لم تتكشّف عمليات تزوير في الطوابع المالية, وليس هناك ما ينبئ بحدوثها أصلاً في ظل قيمة الطوابع. وقد استمرّت المحاولات حتى نجح آخرها, وأُطلقت المناقصة في 7 شباط الماضي وحدّد فضّ العروض في 16 آذار, لكن بسبب جائحة كورونا تأجل الأمر الى تموز.
الشركة الفائزة ستطبَع الطوابع في فرنسا ما قد يعني استنزافاً في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية
إزاء التساؤلات التي أثيرت حول دفتر الشروط وتعليب النتائج على قياس شركة محلية تحمل وكالة شركة فرنسية, ووسط إصرار وزارة المال على المواصفات الجديدة, قرّرت إدارة المناقصة الاستعانة بالخبير الفني متري نصر الله لتحديد مدى انطباق الشروط الفنية على العارضين الثلاثة. يفضّل نصر الله, في حديث إلى "الأخبار", عدم السجال في مسألة الشروط الفنية ومدى الحاجة إليها, إلا أنه يسأل: "هل هناك لزوم لهذه التقنية العالية لطباعة الطوابع المالية لتكون آمنة ضدّ التزوير بالمستوى نفسه لطباعة العملة أو النقد؟ هذا الأمر حدّدته وزارة المال وعملي مرتبط بمطابقة المواصفات. كل ما أعرفه أن هذه التقنية متطوّرة جداً إلى درجة أن الفترة الزمنية لهذه المناقصة (ثلاث سنوات) حدّدت لأن الشركة الملتزمة تحتاج إلى وقت طويل لإعداد الورق وطباعته, وتحتاج أيضاً إلى وقت للتنفيذ والتوضيب وخلافه… لهذا السبب كان هناك في دفتر الشروط فترة سماح طويلة".
الريبة الثالثة في هذا الملف تتعلق بالطباعة في الخارج. فالشركة الفائزة, "إديت إنك", قدّمت النماذج على أساس أن لديها وكالة من شركة فرنسية لطباعتها, ما يعني أنها لن تطبع في لبنان بل في الخارج. وشركة "غرين غلوري" البعيدة عن المنافسة قالت إن مطبعتها في لبنان غير مجهّزة وعرضت نماذج مكتوب عليها باليونانية, ما يعني أن الطباعة ستكون في الخارج. والشركة الخاسرة, "انكريبت", قالت إنها ستستورد المواد من الخارج, وأن مطبعتها قادرة على الالتزام بهذه التقنية في لبنان.
إذاً, المسألة باتت واضحة, سنطبع الطوابع المالية المتطوّرة بكلفة أعلى بقيمة 15 مليار ليرة, وسنستنزف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية لتمويل هذه الكلفة الباهظة. هذا هو الترف الذي لا نملكه اليوم.